"إنما الحلم بِالتَّحَلُّمِ والصبر بالتصبر": رحلة اكتساب الفضائل وبناء الشخصية

"إنما الحلم بِالتَّحَلُّمِ والصبر بالتصبر": رحلة اكتساب الفضائل وبناء الشخصية

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

يُعدّ الحديث الشريف: "إنما الحلم بِالتَّحَلُّمِ والصبر بالتصبر" قاعدة نبوية عظيمة ومنهجاً تربوياً عميقاً في بناء الشخصية الإنسانية وصقلها بالفضائل. إنه يفتح الباب واسعاً أمام كل من يطمح إلى التحلي بالأخلاق الكريمة، مؤكداً أن هذه القيم ليست حكراً على من وُلد بها جبلّةً، بل هي ميدان مفتوح للمجاهدة والمثابرة. جوهر هذا الحديث هو أن الفضائل يمكن اكتسابها بالتدريب والممارسة، وأن الإرادة القوية قادرة على تحويل التكلف إلى طبع راسخ.

image about

الفطرة والاكتساب: تكامل لا تناقض

قد يظن البعض أن الأخلاق إما أن تكون فطرية أو مكتسبة، ولكن الحديث يوضح أن هناك تكاملاً بين الأمرين. فبعض الناس قد يولدون ولديهم ميل فطري للحلم أو الصبر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصتين يحبهما الله: الحلم والأناة". ومع ذلك، فإن الغالبية العظمى من الناس تحتاج إلى العمل الدؤوب لتنمية هذه الصفات. "التحلم" هو تكلّف الحلم ومجاهدة النفس عليه، و"التصبر" هو حمل النفس على الصبر. هذا التكلف والمجاهدة، متى ما استمرا، فإنهما يثمران في النهاية خلقاً أصيلاً وطبعاً ثابتاً. إنها دعوة للتفاؤل والأمل؛ فما من أحد يُحرم من إمكانية أن يكون حليماً وصبوراً.

الحلم: القوة في ضبط النفس

الحلم هو العفو والصفح وكظم الغيظ عند القدرة على الانتقام. إنه ليس ضعفاً أو عجزاً، بل هو قمة القوة والسيطرة على النفس. والشديد حقاً ليس الذي يغلب الناس في المصارعة، بل "الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". التحلم هو الخطوة الأولى نحو هذه القوة. عندما يواجه الإنسان موقفاً يثير غضبه أو استفزازه، فإن "التحلم" يدفعه لكبح جماح نفسه، والتأني في الرد، والتفكير في العواقب بدلاً من الانقياد للغضب الأعمى. ومع التكرار، يصبح ضبط النفس هذا عادةً راسخة، ويتحول الحلم من صفة متكلفة إلى طبع أصيل يزين صاحبه.

الصبر: مفتاح الفرج والعزيمة

أما الصبر فهو حبس النفس عن الجزع والتسخط عند وقوع البلاء، سواء كان ذلك في مواجهة مصيبة، أو عند أداء الطاعات، أو عند الابتعاد عن المعاصي. "التصبر" هو بذل الجهد لتحمل المشاق والآلام والمصائب دون شكوى أو يأس. الحياة مليئة بالتحديات والابتلاءات، ولا مفر من الصبر لمواجهتها. من خلال "التصبر"، يتعلم المرء كيف يستمد القوة من إيمانه وإرادته، وكيف ينظر إلى الأمور بمنظور أوسع يتجاوز الألم اللحظي. الصبر يمنح صاحبه السكينة الداخلية والقدرة على الاستمرار رغم الصعاب، وهو مفتاح الفرج والعزيمة التي لا تلين.

منهجية الاكتساب: خطوات عملية

التحلم والتصبر يتطلبان منهجية واضحة وممارسة مستمرة:

الوعي والإدراك: إدراك أهمية هاتين الفضيلتين والفوائد العظيمة التي يجلبانها للفرد والمجتمع.

المجاهدة: بذل جهد واعٍ ومقصود لضبط النفس في المواقف الصعبة، وتكلف الحلم والصبر في البداية.

التكرار: الممارسة المتكررة هي التي تحول الفعل المكتسب إلى طبع أصيل. كل موقف هو فرصة للتدريب.

التعلم والتأمل: القراءة عن سير الحكماء والصبورين، والتأمل في عواقب الغضب والجزع، واستحضار الأجر العظيم من الله تعالى على هاتين الصفتين.

خاتمة: بناء الشخصية المتكاملة

إن السعي لاكتساب الحلم والصبر ليس مجرد تحسين لبعض جوانب السلوك، بل هو بناء للشخصية المتكاملة والمتوازنة. الشخص الحليم والصبور هو شخص يمتلك زمام أمره، يتخذ قراراته بحكمة وروية، ويتعامل مع الآخرين برفق ورحمة، ويواجه مصاعب الحياة بثبات ويقين. الحديث النبوي الشريف يقدم لنا خارطة طريق واضحة: الفضائل ليست هبات سماوية عشوائية، بل هي ثمار جهد بشري مخلص ومستمر. "إنما الحلم بِالتَّحَلُّمِ والصبر بالتصبر" دعوة للعمل، دعوة لنكون النسخة الأفضل من أنفسنا، ولنصنع من التكلف طبعاً، ومن الجهد راحة، ومن الصعاب أخلاقاً رفيعة.

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
Pa Ndã تقييم 5 من 5.
المقالات

14

متابعهم

6

متابعهم

56

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.