
أم سليم بنت ملحان.. سيدة الصبر والإيمان وأم الأبطال
المقدمة
حين يكتب التاريخ عن الشجاعة، فإنه لا يقف عند أبطال السيوف وحدهم، بل يفتح صفحاته مشرقةً لنساءٍ صنعن ملاحم من العزيمة والثبات. ومن بين هؤلاء النسوة تبرز أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها، التي اجتمع فيها الإيمان الراسخ، والبطولة العملية، والصبر الذي لا يلين. لم تكن امرأة عابرة في سجل الدعوة الإسلامية، بل كانت رمزًا للثبات على الحق، وأمًا ربّت بطلًا من أعظم أبطال الإسلام، الصحابي الشهيد أنس بن النضر وأخوه الصحابي الجليل أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ.
نسبها ونشأتها
هي الرميصاء أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد من بني النجار، إحدى بيوت الأنصار في المدينة. عُرفت بين قومها بالحكمة والشجاعة والإيمان المبكر. كانت زوجةً لـ مالك بن النضر والد أنس بن مالك، وقبل الهجرة كانت تعيش حياةً هادئة في يثرب، لكن نور الإسلام حين أشرق على قلبها غيّر مجرى حياتها إلى الأبد.
إسلامها وثباتها
كانت من أوائل نساء الأنصار دخولًا في الإسلام. وما إن آمنت حتى أظهرت ذلك بجرأة، ولم تخشَ في الله لومة لائم. ويُروى أن زوجها مالك بن النضر أنكر عليها إسلامها، وحاول ثنيها عن دينها الجديد، لكنها رفضت التراجع عن إيمانها. ومع إصراره وغضبه هاجر إلى الشام، وهناك مات على الكفر، تاركًا أم سليم مع ولدها الصغير أنس.
ورغم ألم الترمل المبكر، لم تضعف عزيمتها، بل حملت راية الإيمان، وأصبحت نموذجًا يُحتذى به في الثبات على الدين.
قصة زواجها العظيمة
اشتهرت أم سليم بقصة زواجها الفريدة من أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، الذي كان من وجهاء المدينة ولم يكن قد أسلم بعد. خطبها أبو طلحة وهو على الشرك، فرفضت بحزم، وقالت له كلمتها المشهورة:
"يا أبا طلحة، ما مثلك يُرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم فذاك مهري، ولا أسألك غيره."
فأشرق النور في قلب أبي طلحة، وأسلم بين يديها، فكان إسلامه أعظم صداق دفعته امرأة، واشتهرت هذه الحادثة في تاريخ الإسلام باعتبارها أروع مهر في الدنيا: الإسلام.
أمومة في سبيل الله
لم تكن أم سليم أمًّا عادية، بل ربت أبناءها على الشجاعة والإيمان. أنشأت أنس بن مالك على حب الرسول ﷺ وخدمته، وقدمت ابنها هديةً للرسول ليخدمه، وقالت للنبي ﷺ:
"يا رسول الله، هذا أنيس يخدمك، فادع الله له."
فدعا له النبي ﷺ بالبركة في المال والولد والعمر، فاستُجيب له، وكان أنس من أطول الصحابة عمرًا وأكثرهم ذرية.
أما ابنها الشهيد أنس بن النضر فقد سطّر بدمه أروع معاني التضحية يوم أُحد، وكان يقول:
"واها لريح الجنة، إني لأجدها دون أُحد!"
ثم قاتل حتى استشهد، فكان في ذلك أعظم برهان على التربية الإيمانية التي غرستها فيه أمه.
دورها في الغزوات
لم تكتفِ أم سليم بالتربية داخل البيت، بل خرجت بنفسها في ميادين القتال، مشاركةً المجاهدين بالرعاية والدعم.
حضرت غزوة أحد مع النبي ﷺ، وكانت تسقي العطشى وتداوي الجرحى، وتضرب المقاتلين على أكتافهم تشجعهم على الثبات.
كانت في حنين تحمل خنجرًا في يدها، فرآها النبي ﷺ فسألها عن ذلك، فقالت:
"إن دنا مني مشرك بقرت به بطنه."
فأقرّها النبي ﷺ على شجاعتها وضحك إعجابًا بموقفها.
إنها صورة نادرة لامرأة تقف وسط ساحة المعركة تحمل السلاح دفاعًا عن الدين، في وقتٍ كان فيه الرجال يفرون من الميدان.
الصبر عند الابتلاء
امتحنها الله بوفاة ابنها الصغير من أبي طلحة، لكنها واجهت المصيبة بصلابة نادرة. فقد هيأت نفسها وصبرت حتى أخبرت زوجها بخبر موت الولد في صورة من أرقى صور الرضا بالقضاء. ولما ذهب أبو طلحة إلى النبي ﷺ وأخبره، دعا لهما النبي وقال:
"بارك الله لكما في ليلتكما."
فكان من بركة دعاء النبي أن رزقهما الله بعد ذلك بـ عبد الله بن أبي طلحة، الذي أنجب عشرة من الأولاد، كلهم حفظ القرآن.
علمها وحكمتها
إلى جانب شجاعتها، كانت أم سليم من النساء العاقلات الحكيمات. روت عن النبي ﷺ عدة أحاديث، وروى عنها ابنها أنس وأبو هريرة وغيرهم. وكانت صاحبة رأي سديد، تستشيرها النساء ويقتدين بها.
وفاتها
توفيت أم سليم في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهما، بعد حياةٍ ملأى بالمواقف العظيمة، فكانت سيرتها سراجًا منيرًا للأجيال.
الخاتمة
إن سيرة أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها، ليست مجرد قصة امرأة من نساء الأنصار، بل هي مدرسة في الثبات على العقيدة، والذكاء في المواقف، والشجاعة في الميدان، والصبر عند البلاء. هي امرأة جمعت بين الإيمان العميق والأمومة الصادقة والجهاد العملي، فأصبحت قدوة خالدة لكل امرأة مسلمة تريد أن تترك بصمة في الحياة.
لقد علمتنا أن الشجاعة ليست بالسيف وحده، وإنما بالقلب المؤمن، والعقل الراجح، واللسان الصادق، والتربية التي تخرّج أبطالًا يغيرون مجرى التاريخ.