غزوة بني النضير: الحزم النبوي في مواجهة الخيانة الداخلية

غزوة بني النضير: الحزم النبوي في مواجهة الخيانة الداخلية

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

غزوة بني النضير: دروس لا تنتهي في مواجهة الغدر والتحالفات

​مقدمة:image about غزوة بني النضير: الحزم النبوي في مواجهة الخيانة الداخلية

​تُعدّ غزوة بني النضير واحدة من أهم المحطات في تاريخ الإسلام المُبكر، لا لكونها مجرد معركة عسكرية، بل لغزارة الدروس والعِبر التي تركتها، والتي تتجاوز حدود الزمان والمكان. إنها تُسلط الضوء على طبائع النفوس، وتكشف خطط الأعداء والتحالفات الخفية التي تُحاك ضد الأمة. وقد فصّلت سورة الحشر وقائع هذه الغزوة، حتى قال ابن عباس عنها: "قُل سورة بني النضير". منذ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، واليهود يناصبون له العداء رغم سماحته وما قدم لهم من امتيازات وتسهيلات من خلال معاهداته، إلا أن اليهود مردوا على الخداع والغدر.

​أسباب الغزوة: نقض العهد ومحاولة الغدر بالنبي ﷺ

​لم تكن غزوة بني النضير نتيجة لعداء مُفاجئ، بل كانت تتويجاً لسلسلة من الغدر والدسائس التي مارسها يهود المدينة رغم المعاهدات.

​السبب المباشر للغزوة كان نقضهم للعهد بمحاولة اغتيال النبي ﷺ. فبموجب بنود المعاهدة التي أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم معهم، ذهب النبي ﷺ إليهم في نفر من أصحابه ليطلب معونتهم في دفع دية قتيلين. فوافقوا ظاهرياً، لكنهم تآمروا في الخفاء لقتله. وقد سوّل لهم شقاؤهم أن "يأخذ هذه الرحى، ويصعد فيلقيها على رأسه يشرخه بها". لكن الوحي نزل على رسول الله ﷺ يُعلمه بما هموا به، فغادر مسرعاً متوجهاً إلى المدينة، وأخبر أصحابه بالمؤامرة. هذه الخيانة العظمى كانت نقضاً للعهد الذي كان بينهم وبينه.

​أحداث الغزوة: قوة اليقين في مواجهة الحصون

​بعد فشل محاولة الغدر، أمهلهم النبي ﷺ للخروج من المدينة، لكنهم رفضوا الخروج طواعية واعتمدوا على وعود رأس المنافقين عبد الله بن أُبيّ الذي بعث إليهم يقول: "إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك".

  • الحصار والإجلاء: التجأ بنو النضير إلى حصونهم التي "ظنوا أنها مانعتهم من بأس الله". فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، خرج إليهم وكان حامل اللواء علي بن أبي طالب. حاصرهم النبي ﷺ حتى نزلوا على الجلاء. الله "أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديرهم لأول الحشر".

 

  • قطع النخيل: لما التجأ بنو النضير إلى حصونهم، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعها وتحريقها إهانة لهم وإرهاباً وإرعاباً لقلوبهم.

 

  • حكم الإجلاء: نزلوا على حكم النبي ﷺ بـ الجلاء (النفي من ديارهم)، وأن لهم ما أقلّت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة (السلاح). وقد بيّن الله تعالى أن هذا النفي كان رحمة لهم، فقال: \{وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ\}. وقد وصف الله مشهد خروجهم المخزي حيث كانوا "يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ".

 

​حكم الفيء: تنظيم الموارد المالية للمسلمين

​تُعتبر هذه الغزوة مهمة جداً من الناحية المالية والتشريعية، حيث نزل فيها حكم الفيء.

  • تعريف الفيء: الفيء هو "كل مال أُخذ من الكفار بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب"، كأموال بني النضير هذه، التي نزلوا عنها من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم.

 

  • مصارف الفيء: جعل الله حكم أموال الفيء لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وذلك لسبب هام وضحته الآية الكريمة: \{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ\}. وقد نزل في سياق هذا التشريع توجيه إلهي عظيم: \{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا\}.

 

  • المستحقون: بين الله حال الفقراء المستحقين لمال الفيء وهم: المهاجرون الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، والأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم ويحبون من هاجر إليهم، والذين جاءوا من بعدهم واتبعوا المهاجرين والأنصار بإحسان.

 

​التحالف الخفي: المنافقون واليهود

​كشفت الغزوة عن أخطر جبهة داخلية، وهي جبهة المنافقين. لقد أقسموا لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب أنهم لن يتخلوا عنهم، فقالوا: \{لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ\}. لكن الله كذبهم وكشف نفاقهم: \{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ\}. كما بيّن الله أن المنافقين يخافون من المسلمين أكثر من خوفهم من الله.

​دروس وعبر خالدة

  1. وجوب اليقين في الله: النصر من عند الله، فالإيمان بأنّ الله هو الضار والنافع، والناصر والغالب، هو الذي أخرج بني النضير من ديارهم بعد اعتقادهم بأن حصونهم تمنعهم.

 

  1. صفة الغدر متأصلة: صفة الغدر ونقض العهود صفة متجذرة متأصلة في اليهود على مَرّ العصور، ما يستوجب على المسلمين أخذ الحيطة والحذر منهم.

 

  1. أحكام الحرب والفيء: بيان مشروعية قطع النخيل وإحراقها في سياق القتال، وبيان أحكام الفيء وصلاحيات القائد في تقسيمه.

 

  1. خطر التحالفات الخفية: عقد المنافقون تحالفاتهم مع أعداء المسلمين في كل زمان ومكان لما يحملونه من غِل وحقد على الإسلام والمسلمين.

 

  1. فضل المهاجرين والأنصار: الثناء على المهاجرين والأنصار وتبيان فضلهم وسبقهم وحبهم للإسلام والمسلمين.

 

  1. أهمية التقوى ومحاسبة النفس: التوجيه للمؤمنين بالتقوى ومحاسبة النفس والنظر إلى ما قدموه ليوم العرض، والتحذير من نسيان الله.

 

​خاتمة:

​كانت غزوة بني النضير غزوة تأديبية لليهود الذين ينقضون العهد في كل مرة. ورغم صبر النبي صلى الله عليه وسلم على إيذائهم وتحاملهم على المسلمين، فلما كُتب عليهم الجلاء، أخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة عن بكرة أبيهم. هذا دليل على أنهم أهل حقد وغدر على مَرّ الأزمان، وأنهم أعداء الأنبياء وأعداء الذين يأمرون بالقسط من الناس. إن هذه الغزوة ترسخ أن نصر الله للمؤمنين حتمي، وأن اليقين به هو الحصن الذي لا يُقهر.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

7

متابعهم

1

متابعهم

4

مقالات مشابة
-