الإشاعات الكاذبة وكيف حاربها الإسلام

الإشاعات الكاذبة وكيف حاربها الإسلام

0 المراجعات

الإشاعات الكاذبة وكيف حاربها الإسلام 

وإذا كان تصديق الإشاعات الكاذبة في كل زمان ومكان ، يؤدي إلى النكبات التي تلحق بالأفراد والجماعات ، فإن تصديقها في زماننا هذا التي تعددت فيه وسائل الاتصالات ، وصار العالم كله ، كأنه مدينة واحدة ، ما يجري فيه في الشرق يعلمه أهل الغرب ، وما يجري في الغرب يعرفه أهل الشرق في أوقات سريعة محدودة .

أقول : إذا كان الأمر كذلك فإن تصديقها في زماننا هذا ، يكون أشد شرا ، وأقبح مصيرا ، وأسوأ عاقبة ، ولا سيما في أيام الحروب والأزمات .

ولقد قص علينا القرآن الكريم من الآثار السيئة التي تترتب على تصديق الإشاعات الكاذبة ، ما فيه العبرة لمن يعتبر ، وما فيه الذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، ويكفي للدلالة على ذلك أن تصديق آدم (u) لإبليس عندما حرضه على الأكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها ، أدى إلى خروج آدم من الجنة .

ولقد وضحنا في بحثنا هذا عن الإشاعات الكاذبة ، أن من أنجح الوسائل للقضاء عليها : التثبت من صحة ما يقال وما يسمع ، ورد الأمور إلى مصادرها الصحيحة وسؤال أهل العلم عما خفي من أحكام ، وكتمان هذه الإشاعات وعدم ترددها ، وقذفها بالحقائق الثابتة ، وبالأدلة القاطعة ، التي تهدمها وتبطلها وتجعل كل عاقل يسخر من مروجيها ، وتغليب حسب الظن بين أفراد المجتمع ، فإن سوء الظن – دون موجب له – قبيح بالعقلاء .

الإشاعات الكاذبة موجودة منذ فجر التاريخ 

وإذا أردت أن تعرف مقدار الوعي في أمة ، فتأمل أثر الإشاعات فيها ، فإذا رأيتها تصدق كل ما يقال لها ، فاعلم أنها أمة ما زالت الغفلة متفشية فيها ، وذلك لأن أسرع الأمم تصديقا للإشاعات والأراجيف هي الأمم الساذجة ، التي لا قدرة لها على نقد الأخبار ، وتمحيص الأنباء .

وقد تحمل الإشاعة كذبها بوضوح ، ولكن كثيرا من الناس – لجهلهم أو لسوء نياتهم – لا يفطنون إلى هذا التكذيب ، أو يفطنون لهذا التكذيب ، ولكنهم يريدون نشرها لحاجة في نفوسهم .

أما إذا رأيت فردا من الأفراد ، أو جماعة من الجماعات ، أو أمة من الأمم ، تتثبت من الأخبار التي تصل إليها ، ولا تصدق منها إلا ما تتأكد من صحته ، فاعلم أنها أمة رشيدة ، يكثر فيها العقلاء ، ويقل فيها السفهاء .

والإشاعات الكاذبة موجودة منذ وجود الإنسانية ، ينشرها الأعداء ضد من يعادونهم ؛ لإضعافهم أو لإنزال الهزيمة بهم ، أو لإزالة نعمة منحها الله تعالى لهم أو لغير ذلك من الأسباب التي يراها كل خصم أنها تساعده على الانتصار على خصمه .

ولعل أول من فعل ذلك هو (إبليس) لإغواء آدم (u) !! 

وقصة آدم (u) قد وردت في القرآن الكريم في سور متعددة منها سورة ( البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه ) .

أي : وبعد أن أمرنا الملائكة بالسجود لآدم (u) وامتثلوا أمرنا جميعا ما عدا إبليس ، فلنا لآدم على سبيل التشريف والتكريم : يا آدم ، اسكن أنت وزوجك الجنة ، وقد أبحنا لكما أن تأكلا من ثمارها ومطاعمها أكلا هنيئا رغدا ، وفي أي مكان منها ، واحذر أن تأكلا من هذه الشجرة التي حددتها لكما ، وأمرتكما بعدم الأكل منها ، لأنكما لو أكلتما منها كنتما من الظالمين .

وفي سورة (الأعراف) نجد تفصيلا أكثر ، للإشاعات الكاذبة التي أشاعها إبليس لآدم ، حول الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها .

ثم حكى القرآن أن إبليس لم يكتف بالوسوسة ، أو بالإشاعات الكاذبة ، بل أضاف إلى ذلك القسم المؤكد فقال كما حكى القرآن عنه : ) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ( أي : وأقسم لهما بالأيمان المغلظة أنه لمن الناصحين لهما ، المخلصين في الحرص على منفعتهما .

وفي سورة (طه) الآيات من 115 : 123 تصوير بليغ حكيم لما وقع فيه آدم من خطأ بسبب نسيانه لأمر ربه ، وبسبب تصديقه للإشاعات الكاذبة التي أشاعها إبليس حول الشجرة التي نهى الله تعالى آدم عن الأكل منها وهذه الآيات هي قوله تعالى : ) ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما (15) ( .

هذا والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يرى أن تصديق الإشاعات الكاذبة ، يؤدي إلى الخسران ، ويفضي إلى الهوان ، وينشر العداوة والبغضاء بين الناس .

جانب مما أشاعه المكذبون عن نبيهم نوح (u) 

ومن الآيات القرآنية التي قررت هذه الحقيقة قوله تعالى : ) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) ( (الذاريات)

ومن الأنبياء الكرام الذين أشاع عنهم الجاحدون من أقوامهم الإشاعات الكاذبة : سيدنا نوح (u) وقد وردت قصته مه قومه في سور متعددة منها : سورة الأعراف ، ويونس ، وهود والمؤمنون ، والشعراء ، ونوح .

وتكرار اسمه – عليه السلام – في القرآن الكريم في ثلاثة وأربعين موضعا ، ومكث يدعو قومه إلى إخلاص العبادة لخالقه ، ألف سنة إلا خمسين عاما.

قال الله تعالى : ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا( (العنكبوت:14) 

ومع هذه المدة الطويلة التي قضاها نوح – عليه السلام – مع قومه ، لم يؤمن بدعوته إلا عدد قليل منهم ، بدليل قوله تعالى : ) ومن آمن معه إلا قليل ( (هود : 40) 

فتارة يشيعون عنه أنه إنسان تائه عن طريق الحق ، بسبب ما أصاب عقله – في زعمهم – من اضطراب وخلل.

كان ردهم أن وصفوه بالضلال ، وأشاعوا فيما بينهم أن نوحا – عليه السلام – قد أصيب بالمرض في عقله .

وقد حكى القرآن الكريم ، أن نوحا (u) قد دفع عن نفسه وعن دعوته هذه التهم الباطلة ، وهذه الإشاعات الكاذبة ، بأن وصف نفسه بأربعة صفات كريمة :

أولها : أنه ) رسول من رب العالمين ( أي : هو لا يقول لهم ما يقول من عند نفسه ، ولكن الله تعالى هو الذي أمره بذلك .

وثانيها : نراها في قوله : ) أبلغكم رسالات ربي ( أي : أبلغكم ما أوحاه الله إلى دون أن أكتم منه شيئا .

وثالثها : نراها في قوله : ) وأنصح لكم ( أي : وأتحرى في إبلاغكم النصيحة التي فيها صلاحكم وسعادتكم .

ورابعها : نراها في قوله – كما حكى القرآن عنه : ) وأعلم من الله ما لا تعلمون ( أي : وقد أعطاني الله بفضله وإحسانه – من العلم النافع مالم يعطكم ، فأنا أحذركم عن علم ، وأنذركم عن بينة .

وتارة نرى قوم نوح – (u) يشيعون عنه أنه لو كان نبيا حقا ، لما كان مثلهم في البشرية ؛ لأن النبوة – في زعمهم – تتنافى مع البشرية ، ولا يكتفون بهذه الإشاعات الكاذبة عنه ، بل ينشرون في كل مكان ، أن الذين اتبعوا نوحا (u) هم من سفهاء الناس وليسوا من عقلائهم ، ومن فقرائهم وليسوا من أغنيائهم .

ومقصدهم من كل ما ردوا به على نبيهم نوح (u) أن يصدوا الناس عنه ، وأن يجعلوهم لا يفكرون في إتباعه ؛ لأنه بشر مثلهم ، ولأن أتباعه من الفقراء السفهاء ، الذين يغلب عليهم الكذب في أقوالهم وفي أفعالهم .

لا يكتفون بتلك الإشاعات الكاذبة عنه وعن الذين آمنوا به ن بل أضافوا إلى ذلك أنهم أشاعوا عنه أنه ما يريد بدعوته لهم سوى التباهي والتفاخر وطلب الرئاسة عليهم ، وأنه فوق كل ذلك ، هو إنسان مصاب بالجنون وبالخبر في عقله .

وإن نوحا (u) ما هو في زعمهم إلا رجل به حالة من الجنون والخبل، وإن عليهم أن ينتظروا عليه إلى وقت شفائه أو موته ، وعندئذ يستريحون منه ومن دعوته التي ما سمعوا بها من آبائهم الأولين !! .

والخلاصة أن الطغاة من قوم نوح (u) قد أشاعوا عنه أنه في ضلال مبين ، كما أشاعوا عنه أنه من البشر وأن البشرية – في زعمهم – تتنافى مع النبوة ، كما أشاعوا أن أتباعه من السفهاء الفقراء ، وأنه هو وهم من الكاذبين ، كما أشاعوا عنه أنه يريد من دعوته التي جاء بها ، التفاخر والتعالي عليهم ، ثم أشاعوا عنه في النهاية أنه رجل مجنون .

جانب مما أشاعه قوم (هود) عنه

ومن الإشاعات الكاذبة التي أشاعها زعماء قوم هود (u) عنه لكي يصرفوا عامة الناس عن دعوته ، وعن الاستماع إليه : زعمهم أنه إنسان سفيه ، ضعيف العقل ، يميل إلى الكذب .

يشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف : ) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) (

أي : قال الزعماء من قوم هود لنبيهم ومرشدهم على سبيل التطاول : إنا لنراك يا هود قد تمكنت صفة خفة العقل منك ، لأنك تركت ما عليه الآباء ، وجئتنا بدين جديد ننكره .

وفي موطن آخر نرى أن قوم هود (u) لا يكتفون بأن يشيعوا عنه بأنه رجل ضعيف العقل ، يؤثر الكذب على الصدق ، بل يضيفون إلى ذلك أنه لم يأتهم بشيء فيه فائدة ، وأن أصنامهم قد انتقمت منه فجعلته في حالة هذيان دائم ، وعلى جميع الناس أن يبتعدوا عنه ، وإلا فسيصيب كل من يتبع هودا (u) ما أصابه من أمراض وأسقام .

وهكذا نراهم قد ردوا على نبيهم ومرشدهم بأربعة ردود ، كلها إشاعات كاذبة ، وقد تدرجوا فيها من السيئ إلى الأسوأ ، ومن القبيح إلى الأقبح ، مما يدل على توغلهم في الكفر والطغيان ، وبلوغهم النهاية في الفسوق والعصيان .

وفي سورة (الشعراء) نرى (هودا) (u) قد بذل أقصى جهده في تذكير قومه بنعم الله عليهم ، وفي تحذيره إياهم من الإصرار على الجحود والبطر ، إلا أنهم ازدادوا عتوا ونفورا منه ، وأوهموا العامة أن كلام هود (r) لا وزن له ، وأمروا سفهاءهم أن ينشروا بين الناس أنه لا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب ، وأن الخير في اتباع ما كان عليه آباؤهم من عبادة للأصنام .

وهكذا نجد أن هودا (u) قد سلك في دعوته لقومه أحكم الأساليب وأبلغها ، إلا أن الطغاة من قومه – لكي يصرفوا الناس عنه وعن دعوته – أشاعوا عنه ما أشاعوا من أكاذيب ، حيث وصوفه بالسفه ، وبالكذب ، وبأنه لم يأتهم بما يقنعهم ، وبأن بعض أصنامهم قد انتقمت منه ، وبأن كلامه كسكوته إذ لا فائدة منهما ، وبأنه ما جاءهم بما جاءهم به إلا ليصرفهم عن عبادة أصنامهم التي عبدها آباؤهم وأجدادهم ، فماذا كانت نتيجتهم وعاقبتهم .

كانت كما قال – سبحانه- ) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) ( (هود) 

جانب مما أشاعه المكذبون عن نبيهم صالح (u)

وقد وردت قصته مع قومه في سور متعددة منها سور : (الأعراف ، وهود ، والحجر ، والإسراء ، والشعراء ، والنمل ، وفصلت ، والقمر ، والحاقة ، والشمس ، والفجر)

والمتدبر للقرآن الكريم يرى أن الإشاعات الكاذبة ، التي أشاعها الطغاة من قوم صالح (u) عنه كانت طافحة بالمكر السيئ ، وبالتفكير الخبيث ، والخداع الأثيم ، والمؤامرات الدنيئة للقضاء على نبيهم الذي جاء لهدايتهم وسعادتهم .

فهم تارة يشيعون عنه أنه كان قبل أن يدعي النبوة إنسانا عاقلا سويا محل ثقتهم ، أما بعد النبوة فقد اختلفت نظرتهم فيه ؛ لأنه جاءهم بما يخالف ما وروثه عن آبائهم ، ومن الواجب على الناس كافة أن يبتعدوا عنه ، كما أن من الواجب على من آمن به أن يعود إلى عبادة الأصنام التي كان يعبدها آباؤه ، وإلا كان – في زعم هؤلاء الطغاة – خائنا لعهد الآباء والأجداد .

وتارة نجد الجاحدين للحق من قوم صالح (u) يلجئون إلى الإشاعات الكاذبة عن نبيهم ، عن طريق التشكيك في رسالته ، وتهديد الذين آمنوا به ، والاستهزاء بهم ، حتى يبتعد عامة الناس عنهم.

وتارة نجد الجاحدين المغرورين من قوم صالح (u) يشيعون بين الناس أنهم لو اتبعوا صالحا لكانوا من المجانين الذين لا عقول لهم ؛ لأنه من المستحيل – في زعمهم – أن يكون النبي من البشر .

ثم أخذوا في إشاعة السوء حول دعوة نبيهم صالح ، وفي وصفه بالكذب والبطر فقالوا : أأنزل الوحي على هذا الذي يزعم أنه نبي دوننا ؟ لا لم ينزل عليه شيء من ذلك ، وإنما هو كذاب في دعواه ، وإنسان مغرور متكبر معجب بنفسه !! 

ومن أقبح الإشاعات الكاذبة التي أشاعها الظالمون الغادرون من قوم صالح (u) أنهم أشاعوا بين الناس ، أن وجود صالح وأتباعه بينهم ، أدى إلى انتشار القحط والأمراض فيهم ، وأنه لا مفر من التخلص منهم ، حتى يعود إليهم الخير والعافية .

ثم بين – سبحانه – أن تسعة من المجرمين من قوم صالح (u) أقسموا فيها بينهم أن يقتلوه ليلا هو وأهل بيته ، ثم يزعمون لأقاربه بعد ذلك أنهم لا علم لعم بما حدث لصالح ، وأهل بيته ، وأنهم صادقون في كل ما قالوه ..

جانب مما أشاعه أعداء موسى (u) عنه

ومن العجيب أن هذه الإشاعات الكاذبة عن موسى (u) لم تكن من فرعون وشيعته فقط ، بل كانت منهم ، وممن أرسل الله موسى لإنقاذهم من القتل والظلم وهو بنو إسرائيل .

ومن السور القرآنية التي تحدث عن هذه القصة بصورة مفصلة ، سور : البقرة ، والأعراف ، وطه والشعراء ، والقصص .

ودعوى فرعون وأعوانه أن موسى (u) ليس نبيا ، وإنما هو ساحر كذاب ، نرى القرآن الكريم قد حكاها عنهم في مواضع متعددة من آياته وسوره .

ثم أكدوا قولهم الباطل هذا ، بقول آخر أشد منه بطلانا ، فقالوا : وما سمعنا بهذا الذي جئنا به يا موسى ، من الدعوة إلى عبادة الله وحده ، ومن إخبارك لنا بأنك نبي مرسل من عند الله ، سمعنا بشيء من ذلك كائنا أو واقعا في عهد آبائنا الأولين ، الذين نحن على مناهجهم نسير.

وتنتهي هذه المحاورة الطويلة بأن يقول فرعون لموسى (u) ) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) (

وجاء يوم المبارزة ، وكان أول من شهد لموسى (u) أنه نبي وليس ساحرا ، هم سحرة فرعون ، حيث قالوا عندما رأوا عصا موسى تبتلع حبالهم وعصيهم : ) آمنا برب هارون وموسى( .

فأشاروا عليه بأن يجمع كبار السحرة في مملكته ، لكي يبطلوا سحر موسى – عليه السلام ويتغلبوا عليه .

وهكذا أشاع فرعون وقومه بين الناس بعناد وإصرار أن موسى (u) ساحر وليس نبيا .

جانب آخر مما أشاعه أعداء موسى (u) عنه 

وفي موضع سادس من سورة (يونس) نقرأ آيات منها تحكي لنا أن فرعون وأعوانه ، قد استهزءوا بدعوة موسى (u) لهم إلى عبادة الله وحده ، وأشاعوا بين الناس أن ما جاء به إنما هو من باب السحر الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة أو مراجعة .

وفي موطن سابع من سورة (الإسراء) نشاهد مشادة عنيفة ، ومحاورات تحمل التهديد والوعيد من جانب فرعون لموسى (u) ومن جانب موسى لفرعون كما نرى فيها إصرار فرعون على تأكيد الإشاعات والأراجيف حول موسى ( u) بأنه قد أصيب بالجنون والاختلاط على عقله بسبب السحر الذي مرد عليه قال الله تعالى : ) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) ( (الإسراء) 

وفي موطن ثامن من سورة (غافر) التي قصت علينا في أكثر من عشرين آية ، جانبا من المحاورات التي دارت بين فرعون وحاشيته ، في شأن موسى (u) وبين مؤمن آل فرعون وبين قومه ، نرى أن فرعون وهامان وقارون ، لم يكتفوا بإشاعة أن موسى (u) ساحر بل أضافوا إلى ذلك أنه كذاب ، وقد أصروا على ذلك ليصرفوا الناس عنه ، بعد أن رأوا أن بعضهم قد آمن بدعوة موسى (u) قال الله تعالى : )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) ( (غافر) 

وفي موضع تاسع من سورة (الزخرف) نرى فرعون وأعوانه لا يكتفون بوصف موسى (u) بأنه ساحر ، بل يسخرون منه حتى وهو في أشد حالات الكرب والبلاء .

ولكن هؤلاء الطغاة لم يعتبروا ، فكانت النتيجة أن أصبناهم بالجدب والفقر وبالمصائب المتنوعة ، وهنا قالوا لنبيهم بسوء أدب : يا أيها الساحر الماهر ، ادع لنا ربك بحق عهده إليك ، أن يكشف عنا هذا البلاء ، فإنه إذا كشفه عنا آمنا بك وصدقناك .

كانت النتيجة كما قال سبحانه : ) فلما كشفنا عنهم العذاب ( أي :فلما رفعنا عنهم العذاب الدنيوي المتمثل في الطوفان وفي الجراد الذي أهلك زرعهم .. إذا هم ينقضون عهودهم ، ويصرون على كفرهم وفجورهم .

وهكذا الأشرار فكي زمان ومكان يحملهم غرورهم وعنادهم وإيثارهم لشهواتهم ، على محاربة الحق والفضائل ، ويحرصون كل الحرص على الإشاعات الكاذبة ينشرونها بنشاط ومكر ودهاء ، ضد الأخيار الشرفاء .

ولكن سنة الله تعالى اقتضت أن يجعل النصر في النهاية لعباده المخلصين الصادقين.

جانب ثالث مما أشاعه أعداء موسى (u) عنه 

ولقد رأينا فيما سبق ، أن فرعون وجنوده ، قد أشاعوا عن موسى (u) أنه ساحر ، وقد حكى القرآن الكريم عنهم ذلك في أكثر من عشرة مواضع من آياته وسوره ، ومن ذلك قوله تعالى : )قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) ( (الشعراء) 

وتارة يضيفون إلى كونه ساحرا وإلى كونه كاذبا ، أنه مجنون ، واستمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي ذلك عنهم فيقول : ) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) ( (الذاريات) 

والمقصود بقوله تعالى : ) فتولى بركنه ( ما كان عليه فرعون من غرور وتكبر بسبب ما كان يشعر به من ملك واسع ، ومن قوة متعددة الجوانب ، فكانت نتيجة هذا الغرور والتكبر والتكذيب .. أن أغرق الله تعالى فرعون وجنوده في البحر دون اعتداد بهم .

لقد أشاعوا عنه – أيضا – أنه قد جاءهم بما جاءهم به ، للإفساد في الأرض ، وليس لإصلاحها ، وهذه الإشاعة الكاذبة عن موسى (u) لم كن من فرعون وحده ، وإنما كانت من أعوانه الذين ربطوا مصيرهم بمصيره ، وجاههم بجاهه .

وفي موطن آخر نرى فرعون لا يكتفي بما أشاعه أعوانه حول موسى عليه السلام – من أنه جاء ليفسد في الأرض ، وإنما هو يضيف إلى إشاعاتهم الكاذبة إشاعة أخرى ، فيقول لهم : إن موسى جاء ليبدل دينكم الذي ألفتموه عن آبائكم وعن أجدادكم ، وليأتي بدلا منه بدين آخر لا عهد لكم به ، ولا يصح لكم أن تقبلوه ، بل عليكم أن تجتهدوا في نهي الناس عن قبوله .

ومن كل ما تقدم نرى أن فرعون وشيعته ، قد أشاعوا حول موسى (u) ألوانا من الإشاعات الكاذبة التي منها وصفه بأنه ساحر ، وبأنه كاذب ، وبأنه مجنون ، وبأنه يريد أن يظهر في أرضهم الفساد ، وبأنه يريد أن يبدل دينهم .. فهل اكتفوا بذلك ؟ 

ومن الإشاعات الكاذبة التي أشاعها فرعون وجنده على موسى (u) : زعمهم للناس أن موسى ما جاء بدعوته إلا من أجل الحصول على العظمة والسلطان عليهم ، وأنه ما يريد بدعوته الخير لهم ..

ومن أقبح الإشاعات التي لا أساس لها ، والتي ألصقها فرعون وجنده بموسى (u) زعمهم أن موسى إنسان ضعيف الشخصية ، لا يحسن النطق بما يريد النطق به ..

ومن كل ما نقدم نرى بوضوح ، أن فرعون وأعوانه ، لم يتركوا إشاعة كاذبة أو تهمة باطلة ، إلا ونسبوها إلى موسى (u) فقد وصفوه بانه ساحر وكذاب ومجنون ومتكبر ومهين ولا يحسن الكلام أو النطق بما يريد النطق به ..

بل بلغ السفه وسوء الأدب ببني إسرائيل أن وصفوا نبيهم موسى (u) وهو واحد منهم ، أنهما أشاعوا عنه أن به عيبا بجسده ، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله (r) قال : إن موسى (u) كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جسده شيئا فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، وقالوا : إن موسى ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده ، إما برص ، وإما آفة ، وإن الله – تعالى – أراد أن يبرئه مما قالوا ن وأن موسى خلا يوما واحده فوضع ثيابه على حجر ، ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا على ثوبه ، وأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، حتى انتهى إلى بني إسرائيل فرأوه كأحسن ما خلق الله تعالى وأبرأه مما قالوا ، فذلك معنى قوله تعالى : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)( (الأحزاب) 

جانب مما أشاعه المشركون عن نبيهم شعيب (u)

انظر إلى المنكوسين من قوم لوط (u) لقد تآمروا فيما بينهم ، على طرد نبيهم ومن آمن به من ديارهم ، وقالوا – كما حكى القرآن عنهم : )أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) ( (النمل) 

فهؤلاء الذين خبثت نفوسهم من قوم لوط (عليه السلام) يرون أن الطهارة والعفاف والاستقامة وما يشبه ذلك من فضائل يرونها رذائل ، والمتمسكون بها يستحقون الطرد من الديار .

لقد كان موقفهم منه ، موقف الجحود والعناد والغرور والاستهزاء به وبدعوته ، فقد أخذوا يشيعون عنه أنه مجنون ، وأنه ليس أهلا للنبوة ، وأنه كاذب في كل ما يقوله ، وأنه لو كان صادقا لنزل بهم العذاب الذي هددهم به .. ومقصدهم من هذه الإشاعات الباطلة ، منع الناس من إتباعه .

بأن أشاعوا عنه بين الناس أنه مختل في تفكيره ، وبأنه شخص يغلب عليه عدم الصدق ، وبانه لو كان صادقا لنزل بهم ما توعدهم به من عذاب !! 

ولقد كان من المنتظر أن يتقبل قوم شعيب (u) هذه النصائح تقبلا حسنا ، ولكن المستكبرين منهم عموا وصموا عن الحق ، واستمع إلى القرآن وهو يحكي موقفهم فيقول : ) قال الملأ الذين استكبروا من قومه ( أي قال الزعماء المتكبرون من قوم شعيب له .

قال المتكبرون المغرورون من قوم شعيب له : إن أمامك خيارين لا ثالث لهما ، إما أن تخرج يا شعيب أنت ومن آمن بك من قريتنا ، وتفارقونا إلى غير رجعة ، وإما أن تعودوا إلى ملتنا وهي عبادة آلهتنا .

أي : كأن هؤلاء الهلكى من قوم شعيب ، لم يعيشوا في ديارهم قبل ذلك معيشة ملؤها الرغد والرخاء ) ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( .

أي : ألا هلاكا مصحوبا بالطرد من رحمة الله لقبيلة مدين ، كما هلكت من قبلهم قبيلة ثمود.

وهكذا تكون عاقبة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا .

جانب مما أشاعه أعداء الحق عن النبي (r)

فقد أشاع عنه أعداؤه ، أنه مجنون ، وأنه كاهن ، وأنه ساحر ، وأنه شاعر ، وأنه لم يأت بمعجزة تدل على صدقه ، وأن الإيمان به سيؤدي إلى أن يتخطفهم الناس ، إلى غير ذلك من الأراجيف التي أشاعها عنه (r) أعداء الحق ، والتي استمرت منذ أن أرسله الله – تعالى – رحمة للعالمين ، إلى قبيل انتقاله – (r) – إلى الرفيق الأعلى .

ومما يشير إلى أن أعداءه (r) قد أخذوا في نشر الإشاعات الكاذبة عنه (r) أن سورة المدثر وهي من أوائل السور القرآنية التي نزلت عليه (r) قد ذكرت آيات تدل على اتهام المشركين لع بأنه يتعاطى السحر ، وهذه الآيات هي قوله تعالى : ) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) ( (المدثر) 

وفي سورة (ص) وهي من السور المكية الخالصة ، نرى أعداءه (r) لا يكتفون باتهامه بالسحر ، بل يضيفون إلى ذلك أنه كذاب ، مع أنهم قبل بعثته (r) كانوا يصفون بالصادق الأمين ، ولكنه لأنه (r) قد جاءهم بما يخالف أهوائهم ، ولأنهم قد ملأ الحسد والتعصب الأعمى قلوبهم ، نشطوا في محاربته ، وفي نشر الأراجيف الباطلة ، والشائعات الكاذبة من حوله ، حتى ينصرف الناس عنه وعن دعوته .

ثم أضافوا إلى هذا القول الباطل ، أقوالا أخرى لا تقل عن غيرها في البطلان ، وفي إشاعة السوء عنه (r) فقالوا : ) أجعل الآلهة إلها واحدا ( .

ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : ) إن هذا لشيء عجاب ( أي : أن هذا الذي يدعونا إليه محمد (r) وهو عبادة إله واحد ، لشيء قد بلغ النهاية في العجب والغرابة ومجاوزة ما يقبله العقل !! 

ثم يضيفون إلى ذلك قولهم : ) ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (

ثم صرحوا في نهاية المطاف بالسبب الحقيقي الذي حال بينهم وبين الإيمان ، إلا وهو الحقد والحسد له (r) فقالوا : ) أؤنزل عليه الذكر من بيننا ( ؟ 

جانب آخر مما أشاعه أعداء الحق عن النبي (r)

ولكن هل اكتفى أعداء الحق بإشاعة أن الرسول (r) يتعاطى السحر ؟ كلا ، إنهم لم يكتفوا بذلك ، بل اتهموه – أيضا – بأنه مجنون ، وأخذوا ينشرون هذه التهمة على أوسع نطاق لهم .

ويبدو أن هذه الإشاعة الكاذبة ، فقد نشروها عنه (r) منذ أوائل بعثته أيضا بدليل أن سورة (القلم) التي عدها الإمام السيوطي في كتابه (الإتقان) أنها السورة الثانية في ترتيب النزول ، قد حكت على المشركين أنهم قد اتهموا الرسول (r) بالجنون .

ونفى سبحانه عن رسوله محمد (r) الجنون بأبلغ أسلوب لأن المشركين كانوا مصرين على إلصاق هذه التهمة به (r) .

ثم نشره سبحانه بجملة من البشارات تكريما وتشريفا وتسلية له (r) فقال تعالى ) وإن لك لأجر غير ممنون ( أي : وإن لك – أيهما الرسول الكريم – عندنا ، لأجرا عظيما غير مقطوع بل هو متصل دائما .

) وإنك لعلى خلق عظيم ( أي : وإنك يا محمد لعلى دين عظيم ، وعلى خلق كريم ، وعلى سلوك قويم ، في كل ما تأتيه وفي كل ما تتركه من أقوال وأفعال .

وفي سورة (سبأ) آية كريمة أمر الله تعالى فيها رسوله (r) أن يقول لهؤلاء الذين وصفوه بالجنون : راجعوا أمركم ، ويتفكر كل واحد منكم على انفراد أو مع شخص آخر في أمري ؛ فيسجد أني على الحق ، وأني مبرأ من كل مالا يليق بي من جنون أو غيره .

ولقد رد القرآن الكريم على هذه الشائعات الكاذبة التي اتهم فيها المشركون النبي (r) بأنه مجنون ، رد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، وبما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، وبما يزيد النبي (r) ثباتا على ثباته ، وتكريما على تكريمه ؛ لأن سنته سبحانه قد اقتضت أن يجعل العاقبة للمتقين.

جانب ثالث مما أشاعه أعداء الحق عن النبي (r)

والمتدبر القرآن الكريم ، يراه قد ذكر أنواعا أخرى من الإشاعات الكاذبة ، التي أذاعها المشركون عن النبي (r) من أجل صرف الناس عنه وعن دعوته ، فهم لم يكتفوا بوصفه (r) بأنه ساحر ، وبأنه مجنون، بل وصفوه أيضا بأنه شاعر ، وبأنه – في زعمهم عما قريب سيعود إلى ما يوافق أهواءهم .

ولذا رد الله تعالى عليهم بقوله ) بل جاء بالحق وصدق المرسلين ( أي : ليس الرسول (r) شاعرا أو مجنونا ، كما زعمتم – أيها الجاهلون – بل هو رسول صادق في كل ما يبلغه عن ربه ، وقد جاءكم بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، وبالحكمة التي لا يشوبها جهل .

وفي سورة (الطور) بضع عشرة آية ، أمرت النبي (r) أن يمضي في طريقه دون أن يهتم بأكاذيب ، وحكت جانبا من تلك الشائعات الخبيثة التي قالوها في حقه ، ولقنته الجواب الماحق لها.

ومن هذه الآيات قوله تعالى : ) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) ( (الطور)

وهكذا تجد القرآن الكريم ، قد لقن النبي (r) الإجابة التي تخرس ألسنة الذين أشاعوا عنه أنه ساحرا أو مجنون أو شاعر ، مما جعلهم ينقلبون على أعقابهم خاسرين .

ولكن هل كف أعداء الحق عن أراجيفهم وأكاذيبهم ؟ هذا ما سنجيب عنه في الصفحات التالية بإذن الله تعالى وتوفيقه .

جانب رابع مما أشاعه أعداء الحق عن النبي (r)

لقد أشاع زعماء الشرك بين أتباعهم ، أن الرسول (r) لو كان رسولا من عند الله (تعالى) حقا لكان معه ملك من الملائكة يؤيده ويشهد بصدقه وما دام ليس معه هذا الملك ، فهو ليس برسول ، وعلينا أن نبتعد عنه ، وأن نحارب دعوته بكل الوسائل !!

وقد حكى القرآن الكريم عنهم ذلك في قوله تعالى : ) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) ( (الأنعام) 

وبهذين الجوابين الحكيمين ، يكون القرآن الكريم ، قد أبطل وهدم كل ما أشاعه هؤلاء الجاهلون المتعنتون ، من إشاعات كاذبة ، مؤداها – في زعمهم – أن الرسول (r) لو كان صادقا في رسالته ، لكان معه ملك يمشي معه ، ويدافع عنه ، ويشاهدونه بأعينهم .

وفي سورة (الفرقان) آيات كريمة ، وضحت أن المشركين ، قد أشاعوا بين البسطاء من أهل مكة ، أن محمدا (r) لو كان رسولا من عند الله حقا ، لما كان على هذه الهيئة التي يرى عليها ، بأن يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، فالرسول في زعمهم لا يكون على هذه الحالة .

ثم أضافوا إلى هذا الكلام الذي يقصدون منه الاستخفاف به (r) – كلاما آخر أشد في القبح والسفاهة من هذا الكلام ، حيث أشاعوا بين الناس ، أن الرسول (r) رجل قد أصيب بمرض في عقله ، قد أثر في حياته وفي تصرفاته !! 

وهكذا نرى أن القرآن الكريم ، ساق الشائعات الكاذبة كما نطق بها زعماء الشرك ، ضد النبي (r) ليكرهوا الناس فيه وفي دعوته ، ثم كر عليها بما يزهقها ويبطلها ، وبما سلي النبي (r) عن مكرهم ، وبما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم .

جانب خامس مما أشاعه أعداء الحق عن شخصية الرسول (r)

واستمع إلى القرآن الكريم وهو يسجل أقوالهم ، ثم يرد عليها بما يبطلها فيقول : ) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) ( (الزخرف) 

ثم بشره سبحانه ببشارة أخرى فقال : ) إن شانئك هو الأبتر ( والشانئ : هو الكاره لغيره ، والمعادي له ، والحاقد عليه ، والأبتر في الأصل : هو الحيوان المقطوع الذيل والمراد هنا : الإنسان الذي انقطع خبره ، وزال أثره .

والمعنى : إن من يبغضك ويكرهك ويشيع عنك الإشاعات الكاذبة – أيها الرسول الكريم – هو الإنسان الذي انقطع عنه كل خير ، وحرم من كل أثر طيب ، ونسيه الناس لسوء قوله وفعله.

ومن الإشاعات الكاذبة التي نشرها أكبر المشركين في أتباعهم لكل يصدوهم عن دعوة الإسلام : دعواهم أنهما لو اتبعوا الرسول (r) لتجمع عليهم العذاب من كل جانب وحاربوهم وقتلوهم ، ولا يستطيع محمد (r) وأتباعه أن يدافعوا عنهم ؛ لأنهم لا قدرة لهم على ذلك لضعفهم أمام قوة القبائل المحيطة بمكة .

وقد حكى القرآن أقوالهم هذه ورد عليهم بما يدحضها فقال : ) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) ( (القصص) 

وقد رد الله تعالى على مزاعمهم هذه بقوله : كيف يتفوهون بهذا الكلام الساقط ، مع أننا قد جعلنا لهم حرما ذا أمان وهو البيت الحرام ، الذي يعيشون من حوله في اطمئنان ، وتأتيهم خيرات الأرض بسببه في كل مكان ، وقد فعلنا ذلك معهم وهم مشركون ، فكيف نعرضهم للخطف وهم مؤمنون ؟ ! 

وهكذا يسوق القرآن الكريم ألوانا من الإشاعات الكاذبة التي أشاعها الجاهلون والحاقدون والمغرورون حول شخصية النبي (r) ثم يرد عليها بما يبطلها ويزهقها ، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، ويزيد المعاندين والجاحدين رجسا على رجسهم .

جانب سادس مما أشاعه أعداء الحق عن النبي (r)

فلما جاهر (r)  إلى المدينة المنورة ، وأسس الدولة الإسلامية بها ، تعرض لإشاعات كاذبة أخرى ، من طائفتين من سكان المدينة المنورة .

أما الطائفة الأولى فهي طائفة اليهود ، وأما الطائفة الثانية فهي طائفة المنافقين ، الذين كانوا يظهرون الإسلام ويخفون الكفر .

وكان لكل طائفة منهم أسلوبها ووسائلها في الإساءة إلى شخصية الرسول (r) وفي إشاعة الأكاذيب عنه ، وفي التشكيك في صدق دعوته ، حتى ينصرف الناس عنه (r) 

وقد قص علينا القرآن الكريم في كثير من آياته ، نماذج لتلك الأراجيف الباطلة التي روجها عدد كبير من اليهود لمحاربة النبي (r) ولإظهاره بأنه ليس هو الرسول الذي أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق .

ومن الإشاعات الكاذبة التي أشاعها بعض زعماء اليهود عن النبي (r) زعمهم أنه (r) لم يأت بالمعجزات التي تؤيده والتي أخبرت عنها كتبهم ، وقصدهم في ذلك التشكيك في صدقه ، وفي نبوته ، وقد ذكر القرآن ذلك عنهم في آيات منها قوله سبحانه : ) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) ( (آل عمران) 

ومن أشد الإشاعات الكاذبة خبثا ومكرا ، ما فعله بعض اليهود لتكذيب النبي (r) في دعوته وللإساءة إلى شخصه ، أنهم تواصوا فيما بينهم أنهم يتظاهرون بالإيمان في أول النهار ، فإذا ما جاء آخر النهار رجعوا إلى دينهم فإذا ما سألهم سائل لماذا فعلتم ذلك ؟ قالوا : إنهم بعد دخولهم في الإسلام وجدوه دينا باطلا ، وتأكدوا من أن الرسول (r) ليس صادقا في دعوته ، وأنه ليس هو الرسول الذي أخبرت عنه كتبهم .

واستمع إلى القرآن بتدبر وتأمل وهو يسوق مكرهم بأسلوبه الحكيم فيقول : ) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) ( (آل عمران) 

ومن الإشاعات الكاذبة التي أشاعها بعض أحبار اليهود عن النبي (r) زعمهم أن الرسول (r) يدعوهم إلى عبادته من دون الله ، فقد ورد عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن أحد أحبار اليهود قال للنبي (r) أتريد منا يا محمد أن نعبدك ؟ فقال (r) [ معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن آمر بعبادة غير الله ، ما بذلك أمرني ولا بذلك بعثني ] وأنزل سبحانه وتعالى قوله : ) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) ( (آل عمران) 

جانب سابع مما أشاعه المنافقون عن شخصية الرسول (r)

ومن الإشاعات الكاذبة التي أشاعها المنافقون للإساءة إلى النبي (r) : زعمهم أنه (r) أخذ من الغنائم ما ليس من حقه ، وقد برأ الله تعالى رسوله (r) من هذه التهمة الباطلة فقال : )وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) ( (آل عمران) 

ومن الشائعات الكاذبة التي كان المنافقون ينشرونها للإساءة إلى النبي (r) دعواهم أنه (r) لا يعدل في قسمته وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله : )وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) ( (التوبة) 

كذلك من الأراجيف الباطلة التي كان المنافقون ينشطون في نشرها ، للتهوين من شخصية الرسول (r) حتى لا يقبل الناس على دعوته ، قولهم : إن محمدا (r) رجل أذن أي : رجل يصدق كل ما يقال له سواء أكان ما يقال له من باب الصدق أم من باب الكذب . 

ومن أقبح وأخبث ما تفتقت عنه أفكار المنافقين للاستهزاء بالنبي (r) وللاستخفاف بأقواله ، أنهم كانوا يجلسون في مجلسه ومعهم المؤمنون ، فإذا ما انتهى المجلس وخرجوا قالوا للمؤمنين : ماذا كان يقول الرسول (r) ؟ ويقصدون بذلك أنه (r) لم يقل شيئا يستحق السماع ، وبالتالي فعلى الناس أن ينصرفوا عنه وعن دعوته قال الله تعالى : )وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)( (محمد) 

هذا جانب من الشائعات الكاذبة ، والوسائل الخبيثة ، التي استعملها المنافقون في العهد النبوي ، للإساءة إلى شخصية الرسول (r) لكي يشككوا الناس في صدق رسالته ، وقد أمر الله تعالى نبيه (r) أن يرد عليهم بما يفضحهم ويخرس ألسنتهم .

جانب مما أشاعه المنافقون عن السيدة عائشة (رضي الله عنها)

لم يكتفوا بكل ذلك : بل لجئوا إلى أسلوب خبيث خسيس ، تأباه النفوس الشريفة ، ألا هو الطعن في عرض السيدة عائشة رضي الله عنها إحدى أزواج النبي (r) .

والحق أن حديث الإفك الذي أشاعه المنافقون عن السيدة عائشة رضي الله عنها – قد اهتزت له المدينة المنورة ؛ لأنهم كانوا يقصدون من وراء نشر هذا الحديث المفترى ، الإساءة إلى مقام النبي (r) وإلى الطعن في نبوته ، وإلى الصديقة بنت الصديق وإلى الإسلام والمسلمين بصفة عامة ، لذا فصل القرآن الحديث عن هذا الحادث ، ووجه المؤمنين – كما سنرى – إلى محاربة هذه الأراجيف الباطلة والشائعات الخبيثة .

جانب آخر مما أشاعه المنافقون عن السيدة عائشة (رضي الله عنها) 

جانب مما أشاعه المشركون عن القرآن الكريم 

ومن هذه الإشاعات ما زعمه أعداء الحق من أن هذا القرآن ، ما هو إلا أساطير الأولين ، وقد تكرر ذلك منهم في تسع مواضع من الآيات القرآنية ، منها قوله تعالى : ) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) ( الأنعام.

ثم وضح سبحانه أنهم لا يكتفون بالإشاعات الكاذبة حول القرآن الكريم ، بل هم فوق ذلك يحرضون غيرهم على محاربته فقال تعالى : ) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) ( (الأنعام) 

ومن الإشاعات الكاذبة التي أشاعها زعماء الكفر حول القرآن الكريم ، لكي ينصرف الناس عن سماعه : دعواهم أنهم في قدرتهم واستطاعتهم أن يأتوا بكلام مثل القرآن الكريم في بلاغته وفصاحته وقوة تأثيره في النفوس ، ومما ذكره القرآن عنهم في هذا الشأن قوله تعالى : ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) ( (الأنفال)

جانب آخر مما أشاعه الجاهلون عن القرآن الكريم 

كلا إنهم لم يكتفوا بذلك ، بل أضافوا إلى ما روجوه من أباطيل إشاعات أخرى لا تقل عن سابقتها في البطلان ، ومن ذلك زعمهم أن هذا القرآن قد تلقاه الرسول (r) وتعلمه من رجل ليس عربيا ، وقد قص القرآن ذلك على الناس ، ورد على هؤلاء المرجفين بما يبهتهم ويخزيهم فقال تعالى : )وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) ( (النحل) 

وهكذا يقص القرآن إشاعات المشركين على الناس ، لكي يعتبروا ويتعظوا ، ثم يكر عليهم بالأدلة الساطعة التي تمحقها وتدحضها ، وتزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، وثباتا على ثباتهم .

ومن الإشاعات الكاذبة التي روجها أعداء الإسلام عن القرآن : زعمهم أن هذا القرآن لو كان من عند الله تعالى حقا وصدقا ، لنزل على الرسول (r) وسلم دفعة واحدة ، ولم ينزل عليه مفرقا في مدة تزيد على عشرين عاما.

ومن أقبح الإشاعات الكاذبة ما أشاعه المنكرون لما جاء به الرسول (r) – من عند ربه من قرآن ، وزعمهم أن الله تعالى لم ينزل كتابا على واحد من البشر سواء أكان نبيا أم غير نبي ، وقد رد القرآن عليهم بما يجعل كل عاقل يسخر منهم ومن أراجيفهم فقال تعالى : ) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) ( (الأنعام) 

جانب مما أشاعه المنكرون لليوم الآخر 

الإيمان باليوم الآخر أو بيوم القيامة ، وما فيه من بعض وحساب ، ومن ثواب وعقاب : ركن من أركان الدين ، وجزء من أجزاء العقيدة السليمة ، ولا يكون الإنسان صحيح الإيمان ، إلا إذا آمن إيمانا راسخا ، وأيقن إيقانا تاما ، بأن هذه الحياة الدنيا بما فيها وبمن فيها ، ستنتهي في الوقت الذي يريده الله (U) وستعقبها حياة أخرى هي الحياة الباقية الدائمة كما قال الله تعالى ) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) ( (العنكبوت) 

لقد قص علينا القرآن أن بعض المنكرين لليوم الآخر ، لم يكتفوا بهذا الإنكار ، بل تطاولوا على النبي (r) وأساءوا إليه فقال تعالى : ) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) ( (يس) 

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات : أن أبي بن خلف ، جاء إلى النبي (r) وفي يده بعض العظم البالي ، فأخذ يفتته وينفخه في وجه النبي (r) ويقول له : يا محمد أتزعم أن إلهك يبعثني بعد أن أصير مثل هذا العظم البالي ؟ ! 

فقال له النبي (r) [ نعم يميتك الله تعالى ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار ] 

وقص علينا القرآن الكريم أن بعض المنكرين لليوم الآخر ولإعادة الناس إلى الحياة للحساب ، قد استبعدوا وتعجبوا من أن يخبرهم الرسول (r) بذلك حيث قال تعالى : )وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) ( (الإسراء) 

وقص علينا القرآن الكريم أن بعض المشركين كانوا يتغامزون ويتضاحكون فيما بينهم ، إذا ما أخبرهم الرسول (r) أنهم سيعودون إلى الحياة بعد موتهم ، ليحاسبهم خالقهم على أعمالهم .

ومن الآيات التي ساقت أقوالهم وردت عليهم قوله سبحانه : ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) ( (سبأ) 

والخلاصة أن القرآن الكريم قد قص علينا في عشرات الآيات ، ما أشاعه المشركون من إشاعات كاذبة عن اليوم الآخر ، وعن إعادة الحياة إلى الموتى للحساب والجزاء ، ورد على هذه الإشاعات والأراجيف بالردود المناسبة التي تقنع كل ذي عقل سليم . 

جانب ثالث مما أشاعه المنكرون لليوم الآخر 

والمنكرون ليوم القيامة في العهد النبوي ، لم يكتفوا بالتطاول على النبي (r) لدعوته إياهم إلى إخلاص العبادة لله الواحد القهار ، وإلى إيمانهم باليوم الآخر وما فيه من حساب ، بل سلكوا مسالك أخرى في الإنكار وفي الإشاعات الكاذبة التي نشروها لصرف الناس عن مجرد التفكير في اليوم الآخر وأهواله .

ومن هذه المسالك أن كبار المشركين أقسموا لصغارهم ، أن ما يقول النبي (r) من أن هناك إحياء للموتى يوم القيامة لمحاسبتهم على أعمالهم لا صحة له .

واستمع إلى القرآن الكريم وهو يوضح ذلك فيقول : ) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) ( (النحل) 

ومن الإشاعات الكاذبة والأراجيف الفاسدة التي كررها المنكرون لليوم الآخر : زعمهم أنه من باب الأساطير والخرافات التي لا صحة لها ، وقد رد القرآن عليهم بما يكشف عن جهلهم وانطماس بصائرهم .

ومن الآيات القرآنية التي وردت في ذلك قوله تعالى : ) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) ( (المؤمنون) 

من ثمرات الإيمان باليوم الآخر 

والخلاصة أن الإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب ركن من أركان الإيمان ، وإذا كان الإيمان بوحدانية الله تعالى يحقق المعرفة بخالق هذا الكون ، فإن الإيمان باليوم الآخر يحقق المعرفة بالمصير الذي ينتهي إلى هذا الكون .

والإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب ، هو خير دافع للإنسان لكي يؤدي ما كلفه الله تعالى به بإخلاص ونشاط .

ولقد ساق القرآن الكريم من الشبهات ومن الإشاعات الكاذبة التي تفوه بها المنكرون لهذا اليوم ، ورد عليها بأسلوب منطقي حكيم ، يقنع كل ذي عقل سليم ، بأن اليوم الآخر حق ، وبأن إعادة الناس إلى الحياة للحساب حق .

وصدق رسول الله (r) حيث يقول : [ والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن على ما تعملون ، ولتجزون بالإحسان إحسانا ، والسوء سوءا ، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا ] 

جانب من الآثار السيئة للإشاعات الكاذبة 

وهذه الشائعة الكاذبة التي سرت بين الرماة بأن المعركة قد انتهت ، جعلتهم يتركون أماكنهم ، وينزلون إلى ساحة المعركة ليجمعوا الغنائم ، فترتب على ذلك اضطراب صفوف المسلمين ، واستشهاد عدد كبير منهم ، وهذه الشائعة قد أشار إليها القرآن في قوله تعالى : ) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) ( (آل عمران) 

أما الإشاعة الكاذبة الثانية ، فكانت أقبح من سابقتها ، فقد أشيع خلال اضطراب صفوف المسلمين ، أن الرسول (r) قد قتل ، وقد كان لهذه الشائعة أسوأ الأثر في نفوس المسلمين.

والحق أن هاتين الشائعتين الكاذبتين كان لهما أسوأ الأثر في نفوس المسلمين ، إذ ترتب عليهما ما ترتب من اضطراب في صفوفهم ، ومن حزن في قلوبهم ، ومن استشهاد لسبعين من خيارهم ، إلا أن كثيرا منهم ظل على صدق إيمانه ، وعلى وفائه التام لدينه ، وعلى حبه الصادق لرسول الله (r) وعلى ثباته على العهد الذي قطعه على نفسه بأن يدافع عن عقيدته إلى آخر رمق من حياته ، وفي هؤلاء نزل قوله (تعالى) : ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) ( (الأحزاب) 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا منهم .

جانب آخر من الآثار السيئة للإشاعات الكاذبة 

وأما الشائعة الثانية فقد انتشرت بعد أن اضطربت صفوف المسلمين ، وسرت بينهم شائعة تقول : إن الرسول (r) قد قتل ، وأن الذي قتله هو (ابن قميئة) فإن هذا المشرك بعد أن قتل (مصعب بن عمير) حامل لواء المسلمين في غزوة أحد أخذ يصيح بأعلى صوته قتلت محمدا (r) ومما لا شك فيه أن هاتين الشائعتين كان لهما أسوأ الآثار في ارتباك صفوف المسلمين ، وفي نتائج معركة أحد ، التي استشهد فيها ما يقرب من سبعين من المسلمين .

وإذا ما استعرضنا جانبا من الأحداث التي مرت بالإنسانية ، وجدنا أن الإشاعات الكاذبة ، وهي لون مما نسميه الآن بالحرب النفسية – قد استعملتها كثير من الدول ، كسلاح من أمضى وأقوى الأسلحة في حربها لأعدائها ، وفي زرع الخوف والفشل في النفوس .

ووصلت هذه الرسالة العجيبة إلى السلطان (قطز) فما كان منه – بعد أن استشار الأمراء والوزراء في مصر إلا أن قتل الذين حملوا هذه الرسالة إليه ، وعلق رءوسهم على باب (زويلة) ولم يعبأ بما جاء فيها من وعيد وتهديدات ، ولم يلتفت إلى ما ورد فيها من إشاعات كاذبة ، الغرض منها إضعاف الروح المعنوية عند المصريين ، مع أنه يعلم علم اليقين أن هؤلاء القوم من التتار قد جاءوا من أواسط آسيا ، واستطاعوا في فترة وجيزة أن يقضوا على الخلافة العباسية في بغداد ، وأن يستولوا على بلاد الشام ، ولم يبق أمامهم سوى مصر ، آخر معقل للإسلام في الشرق.

وأعد السلطان (قطز) عدته لحرب التتار ، ولم يقبل أن ينتظر قدومهم نحو مصر ، بل خرج إليهم إلى (غزة) ثم إلى أسوار (عكا) ثم اتجه بجيشه إلى نهر الأردن .

وإذا كان السلطان (قطز) رحمه الله – لم يصدق الإشاعات فكانت عاقبته النصر ، فإن الذين تأثروا بها ، وصدقوها كانت عاقبتهم الخسران ، ويكفي أن نسوق كدليل على ذلك ما أصاب المسلمين من نكبات في معركة (بلاط الشهداء) بجنوب فرنسا سنة 114 هـ سنة 732م .

وسميت هذه المعركة ببلاط الشهداء لكثرة من استشهد فيها من كبار المسلمين والتابعين ، إذ بلغ عدد الشهداء فيها أكثر من عشرين ألف شهيد في جيش لم يزد على مائة ألف .

وهكذا نرى أن تصديق الإشاعات الكاذبة كان لها أسوأ الآثار ، وأقبح النتائج ، لا سيما في أوقات الحرب ، وما من أمة تفشوا فيها الإشاعات الكاذبة فتصدقها إلا وكانت عاقبتها الخسران ، وما من أمة يكثر فيها عدد الذين يحتقرون المروجين للإشاعات الكاذبة ويفضحون أراجيفهم ، إلا ارتفع شأنها ، وصلح حالها ، وفتح الله تعالى عليها بركات من السماء والأرض ، والتاريخ في ماضيه وحاضره خير شاهد على ما نقول ورحم الله القائل :

ليـــــــس بإنســان ولا عــــاقــــــل         من لا عي التاريخ في صدره

ومن دري أخبار من قبله            أضــــــــاف أعمـــارا إلى عمــــــــــره 

من وسائل القضاء على الإشاعات الكاذبة 

( أ ) التثبت من صحة ما يقال وما يسمع 

من أهم الوسائل التي اتبعتها شريعة الإسلام لمحاربة الإشاعات الكاذبة : التثبت من صحة ما يقال وما يسمع . وذلك لأن من صفات العقلاء من الناس أنهم يتثبتون من صحة الأمور ، ويتبينونها بأناة وحكمة ، ويتأكدون من سلامتها قبل الحكم لها أو عليها ، أما الذين يتعجلون في الأحكام ، ويصدون ما يقال أو يسمع دون تثبت أو تبصر ، فإنهم يقعون في الأخطاء التي تضرهم ولا تنفعهم .

ومن هذه الآيات قوله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) ( (النساء) 

ولقد تكاثرت الآثار النبوية التي تدعو المسلمين إلى التثبت من صحة الأقوال والأعمال ، والتي تبين الأمور من قبل الحكم عليها ، وإلى نبذ الإشاعات الكاذبة والأراجيف الباطلة ، ومن ذلك قوله (r) : [ التثبت من الله والعجلة من الشيطان ] وقوله (r) : [ التؤدة في كل شيء خير ، إلا في عمل الآخرة ] .

ومن أقوال أمير المؤمنين على بن أبي طالب لأحد تلاميذه : [ ولا تعجلن إلى تصديق ساع ، فإن الساعي غاش ، وإن تشبه بالصالحين ، واعلم أن من أسرع إلى الناس بما يكرهون ، قالوا فيه ما لا يعلمون ] 

والخلاصة : أن من خير الوسائل للقضاء على الإشاعات الكاذبة ، والأراجيف الباطلة ، التثبت من صحة ما يقال وما يسمع ، والتأني في الحكم على الأشياء ، وتبين الأمور تبينا سليما ؛ لأن عدم التبين للأمور ، والميل وراء الإشاعات يؤدي إلى كثير من الأضرار التي تجعل الإنسان يفقد أصدقاؤه ويزيد من عدد أعدائه .

نسأل الله – تعالى - أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم .

(ب) رد الأمور إلى مصادرها الأصلية 

وما أحكم قول الله تعالى : ) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) ( ( الأنبياء) 

لقد جاءت هذه الآية في سياق الرد على أولئك الذين زعموا أن الأنبياء لا يكونون من البشر ، وأشاعوا بين من على شاكلتهم في الغفلة والجهل ، أن الرسول (r) لا يصلح أن يكون رسولا ، بأنه بشر كسائر البشر ، والرسول يجب أن يكون في زعمهم من الملائكة ، فرد القرآن عليهم بهذا الرد الحكم الذي لقنه للنبي (r) .

ومن الآيات القرآنية التي فضحت مسالك هؤلاء المنافقين قوله تعالى : ) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) ( (النساء) 

والمراد بالأمر في قوله سبحانه ) وإذا جاءهم أمر ( الأخبار المهمة التي يكون لها آثارها إذا أذيعت وأشيعت ، وقوله تعالى ) أذاعوا به ( أي نشروه وأذاعوه يقال : أذاع فلان الخبر وأذاع به ، إذا أفشاه وأعلنه .

وهكذا نرى الآية الكريمة تغرس في نفوس الناس أسمى ألوان الإخلاص لدينهم ولأمتهم ولقيادتهم ، فهي في مطلعها تنكر عليهم إذاعة الأخبار دون تحقق من صدقها ومن فائدتها ، وفي وسطها تأمرهم بأن يرجعوا إلى حقائق دينهم وإلى الحكام العادلين والعلماء المتخصصين الذين يعرفون الأمور حق المعرفة ، لكي يسألوهم عما خفى عليهم ، وفي آخرها تذكرهم بفضل الله تعالى عليهم ، وبرحمته بهم ، حتى يداوموا على طاعته ، ويشكروه على نعمه .

(ج) كتمانها وعدم تكرار الحديث عنها 

من أنجح الوسائل ، ومن أحكم الأساليب ، للقضاء على الإشاعات الكاذبة ، والأراجيف الباطلة : كتمانها وعدم نقلها من شخص إلى آخر ، ومن جماعة إلى جماعة ، ومن مكان إلى آخر ، لأن هذا الكتمان لها يميتها ، ويدل على احتقارها وعلى الاستخفاف بها ، ومتى حدث ذلك في أمة ، سادها الأمان والاطمئنان .

وتبدو هذه الآداب والتوجيهات في آيات متعددة من كتاب الله – عز وجل – ومن هذه الآيات قوله تعالى : ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)( (النور) 

ولم يكتف القرآن الكريم بهذا التوجيه الحكيم لأتباعه ، بل قال لهم : يعظكم الله – تعالى – أيهما المؤمنون – بما يرقق القلوب ، ويحذركم من الخوض في أي حديث فيه إساءة إلى الأخيار الأطهار ، وعليكم أن تمتثلوا لما أمركم به أو نهاكم عنه خالقكم إن كنتم من المؤمنين حق الإيمان ، ويبين لكم – سبحانه - الآيات التي تسعدكم في دنياكم وفي آخرتكم ، وهو سبحانه عليم بأحوال خلقه ، حكيم في جميع ما يأمر به وما ينهي عنه .

(د) مواجهتها بالحقائق الثابتة وبالأدلة القاطعة 

ومن أفضل الوسائل لدحض الإشاعات الكاذبة : مواجهتها بالحقائق التي تزهقها وبالمنطق الحكيم الذي يفضح المتفوهين بها ، والناشرين لها .

ونكتفي هنا بذكر بعض النماذج لأناس عقلاء حكماء ، استمعوا إلى ما أشاعه أعداء الحق عن النبي (r) فردوا عليهم بما يخزيهم .

ومن هذه النماذج ما حدث في السنوات الأولى من بعثته (r) فقد أذن النبي (r) لعدد من آمنوا به بالهجرة إلى الحبشة ، بعد أن آذاهم المشركون أذى شديدا، وكان من بين المهاجرين السيدة رقية ابنة النبي (r) وزوجها عثمان بن عفان (t) وعدد آخر من المهاجرين لم يزيدوا على بضعة عشر رجلا ، وبعد وصولهم إلى الحبشة بفترة من الزمان ، عادوا مرة أخرى إلى مكة ؛ لأنهم بلغهم أن المشركين قد هادنوا المسلمين وتركوهم أحرارا ، ولكنهم وجدوا أن الأمر خلاف ذلك ، وأن زعماء الشرك ما زالوا على عهدهم في إيذاء المؤمنين .

وبعد أن استمع النجاشي إلى كلام جعفر بن أبي طالب (t) قال لا : يا جعفر : هل معك شيء مما جاء به رسولكم (r) عن ربه ؟ فقال : جعفر : نعم ، ثم قرأ عليه آيات من سورة مريم.

فقال النجاشي بعد أن استمع بتدبر وتفكر فيما قرأه عليه جعفر : [ إن هذا الذي استمعت إليه ، والذي جاء به عيسى (u) ليخرج من مشكاة واحدة ] 

ثم التفت النجاشي إلى وفد قريش وقال لهم : انطلقوا ، والله لن أسلم هؤلاء المسلمين إليكم أبدا ، ثم رد هدية وفد قريش إليهم وقال : [ ما أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم ، ولا أطاع الناس في حتى أطيعهم فيه ] .

وهكذا العقلاء الراشدون يحاربون الإشاعات الكاذبة ، والأراجيف الباطلة ، بالحقائق الدامغة ، وبالبراهين الساطعة ، وبالأقوال صحيحة ، وبالأفعال السليمة ، التي تقذف بالحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق ؛ لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح .

(ه) غرس الروح المعنوية العالية في الأمة 

والقائد الملهم الحكيم ، صاحب البصيرة النافذة ، والعزيمة القوية ، والهمة العالية ، والشجاعة الفائقة ، هو الذي يستطيع – لا سيما في أوقات المحن والأزمات – أن يجمع شمل جنوده ، وأن يقوي الروح المعنوية في أمته ، وأن يجعل الجميع ينبذون الإشاعات الكاذبة ، ويحتقرون الأراجيف الباطلة ، ويلقون خلف ظهورهم كل ما يؤثر في أخوتهم واتحادهم وجمع صفوفهم .

وبدأ المنافقون ومن على شاكلتهم يعلنون شماتتهم وفرحهم لما أصاب المسلمين من جراح ، وينشرون الأراجيف حول الرسول (r) وحول دعوته ، فكان من أقوالهم : [ لو كان محمد (r) نبيا حقا ما تغلب عليه أعداؤه ، ولكنه طالب ملك تكون الدولة وعليه ] .

وهنا رأى النبي (r) أنه لابد من عمل سريع ، يزيل أثر الحزن من قلوب أصحابه ، ويزيدهم ثباتا على ثباتهم ، وقوة على قوتهم ، ويرفع من روحهم المعنوية ، ويسترد ما فقدوا من هيبة في نفوس أعدائهم ، فعزم (r) على أن يخرج بأصحابه في أثر قريش ، رغم ما أصابهم من جراح في غزوة (أحد) وما كان بهم من تعب وحزن .

وقد أمر النبي (r) أحد أصحابه أن ينادي في الناس في اليوم التالي من انتهاء غزوة أحد أن يعدوا أنفسهم للخروج لقتال المشركين.

ومن الأمثلة الرائعة التي تدل على دلالة واضحة على أن الرسول (r) كان يحرص كل الحرص على أن تكون الروح المعنوية في أتباعه في ارتفاع دائم ، وفي قوة دافقة ، بحيث لا تؤثر في نفوسهم الإشاعات الكاذبة ، والأراجيف الباطلة ، ما فعله (r) في أعقاب غزوة أحد فقد وقف أبو سفيان فرهوا بين الصفوف وكان قائدا لجيش المشركين ولم يكن قد أسلم بعد وقف ينادي ويقول بأعلى صوته : تعمت فعال ، إن الحرب سجال ، أعل هبل !! فقال رسول الله (r) لعمر بن الخطاب (t) : [ قم يا عمر فأجبه وقل له : الله أعلى وأجل ] 

فقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم !! فقال رسول الله (r) لأصحابه قولوا له : [ الله مولانا ولا مولى لكم ] .

(و) تغليب حسن الظن بالناس 

والأمة السعيدة الرشيدة هي التي يكثر فيها الأفراد الذين يبنون علاقاتهم مع غيرهم على حسن الظن ، وعلى عواطف المحبة المشتركة ، والمودة الخالصة ، والتعاون المتبادل ، والثقة الوثيقة ، والابتعاد عن سوء الظن دون أن يكون هناك ضرورة تدعو إليه ، إذ من دعاء المؤمنين الصادقين : )رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) ( (الحشر) 

ولقد ضرب المؤمنون والمؤمنات أروع الأمثال في حسن الظن بغيرهم ، فها هو ذا أبو أيوب الأنصاري عندما أشاع مرضى النفوس حديث الإفك عن السيدة عائشة ، قال أبو أيوب لامرأته : يا أم أيوب ، أسمعت ما يقوله بعض الناس عن عائشة ؟ قالت : سمعت وهذا هو الكذب !! ثم قالت له : هل كنت مكان (صفوان) وهو الشخص الذي اتهم مع عائشة أكنت تظن بحرمة رسول الله (r) سوءا ؟ قال : لا فقالت له : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله (r) وعائشة خير مني ، وصفوان خير منك !! 

إن من واجب الإنسان العاقل أن يتذكر أن الرسول (r) قد دعا أتباعه في كل زمان ومكان ، إلى تغليب حسن الظن على سوء الظن ، ونهاهم عن تتبع الزلات والعورات فقال (r) [ يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ، ولا تطلبوا عوراتهم ، فإنه من طلب عورة أخيه طلب الله عورته حتى يفضحه في قعر بيته ] .

والدعوة إلى حسن الظن ليس معناها الغفلة عن كيد الأعداء ومكرهم وسوء سعيهم ، وإنما تعني اليقظة والحذر ، ولكن دون شطط أو تحميل الأشياء مالا تحتمله ، فكم من إشاعات كاذبة ، وكم من أراجيف باطلة ، وكم من تهم فاسدة ، أساسها سوء الظن دون مبرر ، ومبعثها الأحقاد والأهواء والابتزاز والشهوات والانقياد للهوى وللمنافع الذاتية ، التي تتنافى مع كل خلق كريم ، ومع كل سلوك حميد .

هل حارب المسلمون أعدائهم بالإشاعات ؟

والسؤال الذي وجهه إلى بعض القراء الكرام : هل حارب المسلمون أعداءهم بالإشاعات الكاذبة كما فعل أعداؤهم معهم ؟

وللإجابة على هذا السؤال نقول : إن شريعة الإسلام لم تبح لأتباعها أن يحاربوا أعداءهم بالإشاعات الكاذبة ؛ لأن الكذب لا يليق بالمسلم ، وإنما أباحت لهم أن يحاربوا أعداءهم بالأساليب الشريفة التي تزلزل أقدامهم ، وتفرق جمعهم ، وتلقي الرعب والفزع في قلوبهم ، وتردهم على أعقابهم خاسرين .

أباحت لهم في أوقات الحروب أن يستعملوا الحرب النفسية التي تقذف الوهن والخوف والفشل والتنازع في نفوس الأعداء ، فإن الحرب خدعة ، كما جاء في الحديث النبوي الشريف .

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

42

متابعين

5

متابعهم

1

مقالات مشابة