المدخل لعلم الاجتماع الإسلامي

المدخل لعلم الاجتماع الإسلامي

0 المراجعات

<!-- /* Font Definitions */ @font-face {font-family:Tahoma; panose-1:2 11 6 4 3 5 4 4 2 4; mso-font-charset:0; mso-generic-font-family:swiss; mso-font-pitch:variable; mso-font-signature:-520077569 -1073717157 41 0 66047 0;} @font-face {font-family:"AGA Arabesque"; panose-1:5 1 1 1 1 1 1 1 1 1; mso-font-charset:2; mso-generic-font-family:auto; mso-font-pitch:variable; mso-font-signature:0 268435456 0 0 -2147483648 0;} @font-face {font-family:"Simplified Arabic"; panose-1:2 2 6 3 5 4 5 2 3 4; mso-font-charset:0; mso-generic-font-family:roman; mso-font-pitch:variable; mso-font-signature:8195 0 0 0 65 0;} /* Style Definitions */ p.MsoNormal, li.MsoNormal, div.MsoNormal {mso-style-parent:""; margin:0cm; margin-bottom:.0001pt; text-align:right; mso-pagination:widow-orphan; direction:rtl; unicode-bidi:embed; font-size:16.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-bidi-font-family:"Simplified Arabic";} p.MsoFooter, li.MsoFooter, div.MsoFooter {margin:0cm; margin-bottom:.0001pt; text-align:right; mso-pagination:widow-orphan; tab-stops:center 207.65pt right 415.3pt; direction:rtl; unicode-bidi:embed; font-size:16.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-bidi-font-family:"Simplified Arabic";} @page Section1 {size:595.3pt 841.9pt; margin:2.0cm 2.0cm 2.0cm 2.0cm; mso-header-margin:35.45pt; mso-footer-margin:35.45pt; border:double windowtext 4.5pt; mso-border-top-alt:thin-thick-small-gap; mso-border-left-alt:thin-thick-small-gap; mso-border-bottom-alt:thick-thin-small-gap; mso-border-right-alt:thick-thin-small-gap; mso-border-color-alt:windowtext; mso-border-width-alt:4.5pt; padding:24.0pt 24.0pt 24.0pt 24.0pt; mso-paper-source:0; mso-gutter-direction:rtl;} div.Section1 {page:Section1;} -->

المدخل لعلم الاجتماع الإسلامي 

مقدمة

قد تميز بعدة سمات أساسية منها .. تأثره الشديد بالشريعة الإسلامية ، حيث إن الإسلام دين ودولة ، باعتبار أن القرآن الكريم قد تضمن – وخصوصا في السور المدنية منه – تنظيما لمختلف نواحي الحياة الاجتماعية ، كما أكملت السنة المحمدية المطهرة ما أوجزه القرآن الكريم ، وفسرت ما تعذر فهمه على الناس ، كما ضرب النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه أروع الأمثلة في مختلف مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية ، والتي كان لها تأثيرها القوى على مختلف عمليات التنشئة الاجتماعية الإسلامية على مر العصور باعتباره (r) الأسوة الحسنة والقدوة لكل المسلمين ، كما جاء الخلفاء الراشدون فيما بعد ليؤسسوا الدولة الإسلامية مسترشدين دوما بالنظم والقواعد التي أتى بها الكتاب الكريم والسنة المطهرة والسيرة النبوية الشريفة.

ومن تلك السمات كذلك أن الفكر الوسيولوجي العربي والإسلامي وخصوصا في العصر العباسي قد تأثر إلى حد كبير بالفكر العالمي نتيجة لحركة الترجمة التي اغترفت من الحضارات القديمة ، ولا سيما اليونانية منها ، ولقد انعكس ذلك على فكر الكثيرين من مفكري وعلماء العرب والمسلمين نذكر منهم الفارابي وإخوان الصفا وابن مسكويه ، وغيرهم كثير.

هذا ، ومن أهم سمات الفكر الاجتماعي العربي والإسلامي محاولته أن تكون له نظرية ومنهج .. صحيح أن الأفكار السوسيولوجية لم تكن مطلوبة لذاتها لدي الكثير من علماء العرب والمسلمين ومفكريهم ، وإنما كانت تلك الأفكار تأتي دوما مختلطة بالأفكار التاريخية أو الفقهية أو الفلسفية أو الطبية أو البيئية وحتى الفلكية منها والموسيقية .

كما كان ذلك الفكر يتسم بالشمولية ، بمعنى أنه كان يضم مختلف نواحي الحياة المجتمعية العربية والإسلامية في محاولة للوصول إلى الكمال ، ولو أخذنا حامورابي ، وفكره الاجتماعي كمثال من التاريخ العربي القديم لوجدنا أن المجتمع بكل طوائفه ونظمه كان هو المحور الأساسي لذلك الفكر ، ولو أخذنا فكر الإمام الغزالي أو الفارابي كمثال للفكر العربي في العصور الأولى للإسلام لوجدنا الشيء نفسه تقريبا .. فكرا شموليا يسعى لصلاح المجتمع الإسلامي ككل أفرادا وجماعات ومجتمعات.

دعوة إلى قيام علم اجتماع عربي إسلامي

القيام بعلم الاجتماع العربي والإسلامي لا ليبرز أمجاد الماضي فقط ، وإنما ليدرس الواقع الاجتماعي العربي والإسلامي مستفيدا من التراث وليقدم حلولا مرتبطة بذلك الواقع .

كما أن الدعوة لضرورة قيام علم اجتماع عربي إسلامي لا تنشأ من فراغ ، وإنما هي تنطلق من واقع قدراتنا الذاتية وإمكانياتنا العلمية والبشرية ، لأن أي إحصاء بسيط سيوضح أن الوطن العربي والإسلامي يضم عشرات المئات من أقسام الاجتماع ومعاهده وكلياته ، فضلا عن مئات الألوف من طلاب الاجتماع وباحثيه ، وهناك أيضا الصفوة الممتازة من علماء الاجتماع العرب والمسلمين التي تبذل جهدا مقدرا في إعداد جيل من الباحثين الاجتماعيين المتمرسين ، زد على ذلك المئات منهم التي تعيش في المهجر ولا سيما في أمريكا وأوربا وتقدم فكرا سوسيولوجيا متميزا .

الباب الأول

الفكر الاجتماعي العربي القديم

لقيت الفترة فيما قبل الإسلام من تاريخ العرب .. أشد العنت والقسوة فضلا عن عدم الفهم ، وهذه القسوة المتعمدة أو التجاهل المقصود لتاريخ العرب خلال ما عرف بزمن ، الجاهلية تعود في رأينا لعاملين أساسيين يتمثل أولهما .. في هذه الحملة الضارية التي قادها الإسلام على تلك الحقبة بكل ما كانت تمثله من عقائد وعادات ونظم وتقاليد وقيم ، ويتمثل ثانيهما .. في الجهل بحقيقة التراث الحضاري للأمة العربية خلال تلك الحقبة التاريخية السحيقة في القدم ، وقد يكون هذا الجهل .. جهلا متعمدا تعميقا للمحتوى اللفظي والشكلي لمصطلح (الجاهلية) وقد يكون ذلك الجهل نتيجة لقلة المصادر التي تناولت تلك الفترة بالدراسة والبحث ، مع تقديرنا للظروف الصعبة للبحث العلمي حول تلك الحقبة السحيقة القدم من الزمان.

الفصل الأول

الحنيفية كحركة إصلاح دينية وثقافية وقومية

الحنيفية كاتجاه :

ويرى كثير من المؤرخين أن الاتجاه إلى الحنيفية لم يكن اتجاه الصفوة المتطهرة العازفة عن الوثنية فقط ، بل كان شعورا قوميا عربيا خالصا بلغ ذروته إبان الاستعمار الحبشي لبلاد اليمن ، ومحاولته هدم الكعبة ، والذي كان من نتيجته أن اتجه كثير من العرب للبحث خلال الأساطير التي تحكى قصة أبى الأنبياء سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام ، وخلال الروايات التي تعرضت لهما ضمن صحف العهد القديم أو الجديد ، وذلك بهدف اعتناق دينهما وإتباع هديهما ليكون العرب دين لا يقل شأنا عن النصرانية أو اليهودية من ناحية ، ولتتحقق لعرب الجاهلية من ناحية أخرى ذاتيتهم القومية وفخرهم بأنسابهم وآبائهم الأولين ، وعلى رأسهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .

فإنه ليس من المتيسر إصدار حكم صحيح على مختلف أبعاد الحنيفية لكي يكفي الحنيفية فخرا ما قيل عن أن سيدنا رسول الله قبل البعثة كان عرفا بدعوتهم التوحيدية وبانتمائهم إلى ديانة سيدنا إبراهيم عليه السلام في صفائها .

الفصل الثاني

مكانة الحجاز ودورها الحضاري في التاريخ القديم

احتل إقليم الحجاز القديم في وسط الجزيرة العربية مكانة ممتازة وخصوصا بعد الضعف الذي اعترى دويلات عربية قديمة عديدة في الشمال والجنوب العربي ، وارتبطت تلك المكانة بعدة عوامل لعل من أهمها :

1- اطمئنان القوافل إلى سلوك دروب وسط الجزيرة العربية بعيدا عن الأطراف ، نظرا لتوافر الأمن فيها من جهة ، ولوجود العديد من الواحات بها من جهة أخرى .

2- وجود الكعبة كمكان مقدس يلتف حوله معظم القبائل العربية وكمزار يحج إليه العرب من كل الأصقاع.

3- بروز قبيلة قريش وما تمتعت به من شهرة بين مختلف القبائل العربية وذيوع قدرتها على حماية الأماكن المقدسة ، فضلا عن دورها كمشتغلة بالتجارة وما جره عليها ذلك من غنى ونفوذ.

4- الموقع الجغرافي الممتاز الذي احتلته مكة بالذات كملتقى لمختلف مسارات القوافل التجارية المتجهة من وإلى الجنوب والشمال العربي.

5- تميزها بالاستقرار ، وما يستتبع ذلك الاستقرار من تأثيرات حضارية متعددة في مختلف المجالات العمرانية .. كالامتداد العمراني الذي لحق بمكة ويثرب ، واقتصادية وسياسية ، من خلال دار الندوة التي كانت تعتبر المتصرف في تسيير علاقات مكة بغيرها من القبائل والمدن ، فضلا عن حل المشكلات القبلية الداخلية ، ودينية .. كدور قريش في تحديد الأشهر الحرم وإقرار مختلف القبائل العربية لذلك التحديد فضلا عن جذبها للعديد من التيارات العقائدية والدينية كاليهودية والمسيحية والوثنية والمجوسية وما إليها .

6- نماء الشعور القومي العربي داخل قريش ثم من خلالها لبقية القبائل العربية ، وبروز ذلك الشعور بعد موقعة ذي قار عام 609 ميلادية ، والتي انتصر خلالها عرب الحيرة على الفرس ، والذي اعتبر أول انتصار عربي على الأعاجم في وقت كان فيه العجم هم المنتصرون دوما .. مع ما يستتبع ذلك كله من فرض إرادة المنتصر وسلطانه على المهزوم .

7- اختلاط وتزاحم العديد من المعتقدات والديانات ، منح العرب الجزيرة فرصة للتأمل فيما يجاورهم من أفكار ومبادئ محاولين الوصول إلى الحقيقة وسط ذلك الخضم المتلاطم من التيارات المذهبية والعقائدية وكان أن برزت خلال الحقبة التي سبقت ظهور الإسلام مباشرة حركة إصلاحية دينية هي (الحنيفية) وعلى النحو الذي شرحناه في غير هذا المكان .

ولم يكن غريبا بعد كل ذلك أن تتهيأ كل الظروف لأن تحتضن بلاد الحجاز فيما بعد أعظم دعوة للتوحيد ، وتبليغ أشرف رسالة لأكرم رسول ..وأعنى بها الإسلام الذي انطلقت جحافل إيمانه فيما بعد لتنتصر على الفرس والروم ، ولترسي دعائم حضارة عربية إسلامية ، الكل فيها سواسية كأسنان المشط .. أحدها قوي بأخيه .. ومجتمعها متماسك يشد بعضه بعضا كالبنيان المرصوص.

الفصل الثالث

الملامح الحضارية لبلاد اليمن القديمة قبل الإسلام

النظام السياسي :

مؤسسي الحضارة اليمنية القديمة قد نسجوا في نظامهم السياسي على منوال النظام السياسي الذي كان سائدا لدي بابل ، حيث كانت المملكة عندهم تتكون من قصور أو محافد ، يملك كلا منها شيخ أو أمير هو صاحب القصر أو المحفد ، وفي المحفد هيكل أو معبود ، وينسب القصر إلى صاحبه وإلى ذلك المعبود .

ورأس الحكومة عنهم الملك وهو مطلق الحكم ، وكان الملك عندهم وراثيا ينتقل إلى الأبناء والإخوة.

التركيب الطبقي للمجتمع

1- الأشراف .. وهم طبقة الأمراء وأقرباء الملك وذويه ..وهم في قمة الهرم المجتمعي .. ودورهم هو الحكم أو الملك إلى جانب الاستمتاع بكل مظاهر ذلك الملك .

2- الجند .. وهذه الطبقة تضم المسلحين والمدربين على مختلف العمليات القتالية ودورهم حفظ النظام والأمن ، علاوة على حراسة القلاع وحماية القوافل التجارية .. حيث كانت الحضارة اليمنية القديمة ترتكز على التجارة إلى جانب الزراعة والصناعة .

3- الفلاحون .. ومهمتهم الأساسية زراعة الأرض وفلاحتها واستغلالها بمعاونة الدولة التي وفرت لهم السدود التي من أشهرها سد مأرب ، وشقت الطرق والقنوات تيسيرا لعملية الري والزراعة التي بلغت درجة عالية من الرقي آنذاك.

4- الصناع .. وكانت مهمتهم قاصرة على إعداد بعض أصناف التجارة لبيع والاستغلال التجاري كالبخور واللبان والطيب والقرفة والمر .. وما إليها .. كل هذا علاوة على استخراج بعض المعادن من مناجم في باطن الأرض .. ولعل أشهر تلك المناجم ما كان موجودا في بلاد مديان .. بما كانت تضمه من ذهب وفضة وحديد .

5- التجار .. وكان لهم دور هام فيد كانت التجارة إحدى الركائز الأساسية للحضارة اليمنية القديمة نظرا لتوسط بلاد اليمن لبلدان العالم المختلفة .

سد مأرب أو سد العرم كرمز للرقي الحضاري لبلاد اليمن القديمة :

سد مأرب .. من أعظم السدود العربية .. أو لعله أعظمها على الإطلاق وأوسعها شهرة ولقد اكتسب ذلك السد شهرته من : 

1- ما ذكره القرآن الكريم عنه .

2- عظمة تصميمه الهندسي وتنفيذه المعماري .

3- دوره في نماء وخير بلاد اليمن القديمة .

4- ما أحاط به من أساطير وخصوصا تلك التي تفسر تشييده ثم انهياره ونعود إلى قليل من تفصيل ما أوجزناه .

سد مأرب في القرآن الكريم :

) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ( (سبأ) 

الأساطير التي أحاطت بالسد : 

إن المسلمين اختلفوا في تفسير خبر السد ، كما دخل هذا الخبر كثير من المبالغات والخرافات ، واختلفوا فيمن بنى السد ، ويقال أن كاهنة اسمها ظريفة أنذرت اليمنيين بانهيار السد وحددت موعده ، وتحقق ما روته الكاهنة عندما انحل نظام المملكة وتقلص ظل ملوك حمير ، وذهب الحفظة القائمون بأمر السد فتهدم سد مأرب على عهد الملك عمرو بن مزيقياء .

الفصل الرابع

الفكر الاجتماعي اليمني القديم زمن الجاهلية

البناء الاجتماعي لقتبان :

كان المجتمع القتباني يتكون من مجموعة من الطوائف أو الفئات وكانت كل طائفة تضم هي الأخرى عددا من الأسر المتساوية في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية .

إلا أن الدولة كانت تفرق في معاملاتها مع كل بطن من البطون بما يتفق ومكانة ذلك البطن ، وعلى كل بطن أن يعيش وفقا للحدود التي رسمها المجتمع ، وأن يتقيد بالأوامر التي تصدرها الدولة .

هذا إلى جانب أن البناء الاجتماعي للمجتمع اليمني آنذاك كان يضم الفئات الأربعة الآتية كل على حسب وضعيته ومكانته ودوره في المجتمع :

1- قبيلة أو طبقة الأشراف ، وهي القبيلة التي ينتمي إليها الملك وتتمركز حولها كل مظاهر السلطة والحكم .

2- طبقة الفلاحين ، ويطلق عليهم فلاحي الملك ، وهي التي تقوم باستصلاح الأرض واستغلالها.

3- طبقة العمال ، وكانت تسخر في إعداد الطرق وشق الترع وأعمال الري والبناء .

4- طبقة الجند ، وهي التي تتولى أمور الحرب والقتال .

نظم التشريع والإدارة :

عرفت بلاد العرب الجنوبية ولا سيما قتبان نظاما ديمقراطيا متميزا لا يختلف كثيرا عن النظام النيابي الحالي ، فقد وجد مجلس قبلي إلى جانب العرش . علاوة على أن القبائل المختلفة كانت تمثل في الهيئات التشريعية المتعددة والتي كانت تدير شئون البلاد في نفس الوقت ، وكان المجتمع القبلي يعقد جلساته مرتين كل سنة وفي عاصمة الدولة .

الفصل الخامس

الدولة الحامورابية وفكرها الاجتماعي والديني والتربوي والاقتصادي

حامورابي هو سادس ملوك الدولة البابلية الأولى ، والمرجح لدي المؤرخين أنه حكم في الفترة ما بين عام 1727 إلى 1686 قبل الميلاد ، وأن حكمه امتد ليشمل بلاد شومر أو سومر إلى جانب بابل فصار يعرف بملك باب وشومر.

ولقد كثرت حول حامورابي الأساطير والروايات ، حيث بلغت الدولة البابلية في عهده ما لم تبلغه دولة عربية قديمة ، مجدا وحضارة وسموا في الفكر .. اللهم إلا إذا استثنينا من ذلك حضارة المصريين القدماء باعتبارها أم الحضارات القديمة وأعظمها على الإطلاق .

المهم أن حامورابي لم يكتسب شهرته ولا عظمته باعتباره ملكا فقط ، ولكنه اكتسبها باعتباره مصلحا اجتماعيا وفيلسوفا قبل أن يكون ملكا .

النظام الطبقي :

كان الناس خلال الدولة الحامورابية يرتبون على طبقات ثلاث هي :

1- طبقة الأحرار .

2- طبقة الموالي .

3- طبقة العبيد .

نظام الزواج :

الزواج طبقا لشريعة حامورابي لابد أن يكون بعقد مكتوب ، كما لابد أن يقدم الرجل لفتاته قدرا من المال يسمى (حق العروس) كما تأتي الفتاة ببعض من مال أبيها هو عندهم (المهر) ولكن كل المال للمرأة تحتفظ به حتى تحتاج إليه يوما ، ومن حق البنت التي لم تتزوج لن تأخذ لنفسها المهر من أبيها ، والحق نفسه للشاب الذي لم يتزوج حيث يأخذ من أبيه (حق العروس)

ومن عادتهم أن يعين حق العروس للشاب والمهر للفتاة منذ الصغر ويودع باسمها حتى يحين اليوم الموعود .

حقوق كل من الزوجين :

ولكن مال الطلاق قد أخذنا بعيدا ، مع أن الزواج طبقا لشريعة حامورابي يتمتع بعرى وثيقة ، وتحوطه حقوق وواجبات مقدرة تصل إلى حد أن تكون المسئولية بينهما مشتركة ، والمسئولية هنا .. تعني أن يكون كل منهما مسئولا عن تصرفات الآخر حتى وإن كانت هذه التصرفات قد حدثت في الماضي ، وبالتحديد قبل الزواج ، ما لم يكن أحدهما قد اشترط على الآخر قبل الزواج ألا يتضامن معه فيما قبل وقت زواجهما .

ومن قبيل المحافظة على عري الزواج الوثيقة كانت عقوبة الزنى هي الموت .

مكانة المرأة في الدولة الحامورابية :

المرأة تكاد تكون مساوية تماما للرجل في الحقوق ، فهي كفيلة زوجها في دينه للغير ، ويمكن للمدين أن يطلب حبسها وفاءا لدين زوجها حتى يرد له دينه ، كما أن المرأة تقوم بالكثير من الأعمال التجارية ، وتفلح الأرض وترعى الإبل والضأن والماعز كما ثبت أن المرأة في دولة حامورابي عملت في الدواوين الحكومية وامتهنت العديد من المهن .. وأكثر من هذا وذلك أنه كان في إمكانها أن تكون كاهنة ، بل وكان لسلك الكهانة النسوي تنظيم دقيق ودرجات يعلو بعضها فوق بعض طبقا للقواعد الآتية :

(1) الكهانة الكبرى :

والمرأة التي تحتل هذه الدرجة لا يشترط فيها أن تكون عذراء ، ولها الحق في مهرها الذي تأخذه من مال أبيها ، والمرأة في مرتبة الكهانة الكبرى تكون (سيدة مقدسة) أي (نيثان) باللغة البابلية ، والشرط الوحيد الذي يجب أن يتوافر فيها هو الطهارة والقداسة ، ومن حقها على الدولة أن تحميها وأن تدافع عنها بما يصون طهارتها وقدسيتها .

(2) كهانة العذاري :

ويشترط أن تكون صاحبتها بتولا ؛ لذلك فهي لا تأخذ مهرا من أبيها ، وتعرف باسم (كالاتي) وشرط القداسة والطهارة أيضا شرط ضروري ، كما أن من حقها على الدولة الحماية والرعاية.

(3) الكهانة المقدسة :

والعذرية فيها هي الأخرى شرط أساسي ، وليس لها من حقوق قبل والدها غير حصولها على ثلث ما يحصل عليه شقيقها من إرث أبيها ، كما يحرم عليها الزواج قطعيا ، فضلا عن أنها تتمتع بنفس حقوق سابقتيها من حماية الدولة ورعايتها .

(4) كهانة النذر :

ويطلق عليها كهانة (لمروداخ) ولها نفس مواصفات الكاهنة المقدسة .. حيث لابد أن تكون بتولا كما يحرم عليها الزواج ، ولها على الدولة حقوق الحماية والرعاية ، ونقطة الخلاف الوحيدة بين الكاهنة (النذر) والكاهنة المقدسة أن الأولى ترث عن أبيها إرثا كاملا .

التبني والتبرؤ في شريعة حامورابي :

( أ ) التبني :

كان معروفا في الدولة البابلية ، وقننته شريعة حامورابي حيث كانت ترى فيه وظيفة اجتماعية ، ورتبت عليه حقوقا وواجبات سواء على الأب الذي يتبنى طفلا ، أو على الطفل المتبني .

(ب) التبرؤ : 

ويقصد به أن يتبرأ والد من ابنه الذي هو من صلبه ، ولكن ذلك لا يحدث إلا أمام القاضي ، حيث لابد للأب أن يقول : ( أنا أتبرأ من ابني ) ويعدد الأسباب التي دعته لذلك وجرت العادة أيضا ألا يحكم القاضي لصالح الأب أو يجيبه إلى طلبه إلا بعد مهلة عسى أن يغير الأب رأيه خلالها ، ولكن إذا ما وجد القاضي منه إصرارا أجابه إلى طلبه ، كما أنه من حق القاضي أن يرفض طلب الأب إذا لم يكن مقتنعا بالأسباب التي قدمها ليتبرأ من ابنه الذي هو من صلبه.

نظام المعاملات في دولة حامورابي :

بلغت المعاملات المالية طبقا للشريعة الحامورابية درجة عالية من التنظيم الدقيق فمثلا التجارة .. تنظمها العديد من اللوائح ، ولابد لإتمامها بشكل قانوني من صكوك وعقود ، وكانت للودائع والرهونات عندهم شروط وقواعد كذلك .

وكلمة أخيرة حول الفكر الاجتماعي والسياسي لدولة حامورابي نقول خلالها : 

1- أن هذه الدولة بلغت درجة عالية من التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والإداري بفضل شرائع حامورابي ووصاياه .

2- أن ذلك الفكر امتزج بالعديد من منابع الفكر في الشرق القديم وفي الغرب القديم على حد سواء .. ويمكن أن يلاحظ ذلك من خلال نظام الزواج .. حيث كان الرجل يقدم لخطيبته (حق العروس) وهو ما يشبه المهر في الشرق والمرأة تأخذ من بيت أبيها مهرا يشبه (الدوطة) في العالم الغربي المعاصر.

3- النظام الطبقي يشبه إلى حد كبير نظام الطبقات كما نظمته الشريعة الموسوية ، ونظام الكهنة عند النساء يشبه مثيله عند الديانة العيسوية ، وإن دل ذلك على شيء إنما يدل على مدى تأثر حاخامات وحواربيي الديانتين بالتعاليم الحامورابية . 

4- أن هذا الفكر عربي المنبع والمصب .. وتربطه بالأصالة العربية روافد عديدة تبدو أوضح ما تكون في أسماء ملوكهم ومعبوداتهم ولغتهم فضلا عن علاقات التعاون والجوار والأخوة التي دفعت أهالي دولة حامورابي لأن يلجأوا إلى إخوانهم في جزيرة العرب فرارا بحريتهم وصونا لها من ذلل الغاضب عندما غلبوا على أمرهم أيام الدولة البابلية الأولى .

الباب الثاني

مصادر التفكير الاجتماعي العربي والإسلامي ومعالمه

الفصل السادس

مصادر التفكير الاجتماعي العربي القديم

مقدمة حول مصادر التفكير الاجتماعي العربي القديم 

البحث عن مصادر التفكير الاجتماعي العربي وخصوصا القديم منه ، هو كالبحث عن مصادر التاريخ العربي ذاته ، بمعنى أن الأمر يستلزم بحثا وتنقيبا عن تلك المصادر على اختلاف نوعياتها.

والمصادر الأدبية تتمثل في كل ما أفرزته لنا الفترات التاريخية السابقة من إنتاج أدبي مكتوب أو مسجل سواء أكان ذلك الإنتاج نثرا أم شعرا علاوة على كتابات المؤرخين .

أما المصادر الوثائقية فتتمثل في كل الكتابات القديمة المعاصرة للفترة الزمنية محل الدراسة وبصرف النظر عن الكيفية التي سجلت بها هذه الوثائق .. 

حيث لا يهم كثيرا أن تكون مكتوبة على ورق أو حفرت على حجر أو نقشت على جلد أو فخار أو عظم أو خشب أو معدن .

أما المصادر المادية فتتمثل فيما تركه السلف من آثار كالمعابد والقصور والحلى والأسلحة والثياب والقبور والنقود وغير ذلك من الأدوات المستخدمة في الحياة اليومية للمجتمعات محل الدراسة .

(1) التوراة والزبور والإنجيل:

تعتبر التوراة مع الزبور والإنجيل من أقدم المصادر التي يعتمد عليها ، ليس للتأريخ لشبه الجزيرة العربية ولغيرها من بلدان العالم العربي فقط ، وإنما يمكن الاعتماد عليها أيضا للتعرف على مختلف ملامح المجتمعات العربية المعاصرة والسابقة لكل من التوراة والزبور والإنجيل.

(2) القرآن الكريم :

تضمن القرآن الكريم في العديد من آياته وسوره ، أخبارا عن أحوال العرب قبل الإسلام ، وما قصص الأنبياء إلا خير مثال على ذلك ، وعلاوة عن الأخبار المباشرة التي رواها القرآن الكريم عن عاد وثمود ولوط وعن أقوامهم ومجتمعاتهم ، وكذلك ما ذكره القرآن الكريم عن مملكة سبأ وسدها العظيم وما أصابه من سيل العرم .

ولعل القرآن هو أكبر الكتب المقدسة إخبارا عن الأحوال الاجتماعية للعرب فقد تحدث عن : 

( أ ) رحلة الشتاء والصيف ، باعتبارهما أهم ركائز الاقتصاد العربي القديم على الإطلاق.

(ب) العديد من عادات العرب وتقاليدهم قبل الإسلام كوأد البنات والتنجيم وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير .. الخ .

(ج) العديد من النظم الاجتماعية أيام الجاهلية .. كنظم الزواج والإرث والمعتقدات الدينية وما إليها .

(ه) العديد من الحوادث والقصص العربية القديمة كحادثة أصحاب الأخدود وأصحاب الفيل وأهل الكهف ، وغير ذلك من الحوادث والقصص التي قصد بها لفت نظر العرب حتى يأخذوا منها العبرة كخطوة أولى عن طريق تحولهم من أوضاع الجاهلية غير المقبولة من الإسلام إلى أوضاع مجتمعية جديدة ومتغيرة يحبذها الإسلام ويدعو إليها .

(3) الحديث والسيرة النبوية الشريفة :

سيدنا رسول الله (r) عاش في مكة أم القرى قبل بعثته وعاصر العديد من عادات عرب الجاهلية وتقاليدهم فضلا عن أن رحلاته التجارية المتعددة أتاحت له (r) اتصالا ومعرفة وثيقتين بالأحوال المجتمعية لكثير من الشعوب العربية .

وبعد البعثة تناولت السنة النبوية العديد من تلك الأحوال إما بالإقرار أو بالتعديل أو بالإلغاء فضلا عن أن خلقه (r) كان هو الإسلام بسماحته وعظمته .

(4) الأدب الجاهلي :

ونقصد بالأدب هنا ، الإنتاج العقلي الأدبي الجاهلي سواء أكان ذلك الإنتاج منظوما أم منثورا حيث تضمن ذلك الأدب وخصوصا الشعر منه ، وصفا دقيقا لأوضاع المجتمع العربي الجاهلي ولظروفه ، وفي اعتقادي أن قراءة سوسيولوجية للشعر العربي القديم سوف تتيح لنا إلقاء المزيد من الضوء على العديد من نظم عرب الجاهلية وتقاليدهم ومعتقداتهم .

( أ ) الشورى .

(ب) بعض المعتقدات الدينية :

حيث قيل في وصف الوعل على لسان أوس بن حجر ما ينم عن أن عرب الجاهلية كانوا إذا ما تعاهدوا أو حالفوا يحلفون على النار .. ويسمونها المهول وبنفس الطريقة التي ذكرناها خلال حديثنا عن أثر الفكر السوسيولوجي الفارسي على الفكر العربي الجاهلي.

(ج) العادات والتقاليد العربية :

حوى الشعر الجاهلي الكثير من النماذج التي تتم عن مختلف عادات العرب وتقاليدهم أيام الجاهلية وخصوصا ما تعلق منها بالفخر بالأنساب والأمجاد والبطولات الحربية والكرم وما إليها.

(د) النظم الاجتماعية والمعاملات :

حوى الشعر الجاهلي أيضا ما ينم عن العديد من النظم الاجتماعية العربية القديمة ، كالزواج والطلاق والتربية وطرق المعاملات وأسباب قيام الحروب وما إليها.

(5) الكتب التاريخية القديمة:

وهي الكتب التي تناولت أحوال العرب وأخبارهم قبل الإسلام – سواء كتبت هذه الكتب بمعرفة مؤرخين مسلمين أو غير مسلمين – ولقد حوت هذه الكتب العديد من المواد الخصبة التي تعتبر مرجعا هاما لكل من يريد أن يتعرف على مختلف الأوضاع الاجتماعية العربية القديمة .

(6) الآثار الحضارية التي تم الكشف عنها :

ويقصد بها التراث الحضاري للشعوب العربية ذات الحضارات العظيمة والتي شهد أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلادي اهتماما متزايدا للكشف عنها ، وما تلا ذلك من بروز علم الآثار الذي مكن العديد من الأثريين من اكتشاف الكثير من المعابد والمقابر والآثار بما تضمنته من نقوش وكتابات أفصحت قراءتها عن اكتشاف العديد من جوانب حضارة تلك الأمم وخصوصا في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام .

الفصل السابع

مصادر التفكير الاجتماعي الإسلامي

(1) الكتاب :

( أ ) تنظيم الكتاب للحياة الاجتماعية لأمة القرن :

تضمنت نصوص القرآن الكريم – وهي كلها قطيعة الثبوت – التشريعات التي تنظم أحكامها مختلف العلاقات الإنسانية وبشكل محكم الدقة بما يكفل خير الأمة الإسلامية وصلاحها.

(ب) أخبار القرآن لبعض السير الاجتماعية والحوادث السابقة :

تضمنت النصوص القرآنية العديد من أخبار الحوادث التي وقعت في العصور الغابرة ، وكذلك بعض الأحوال الاجتماعية للعديد من الأمم السالفة كأخبار عاد وثمود وقوم لوط ، كما تضمنت العديد من أخبار الرسل السابقين على سيدنا رسول الله (r) كأخبار موسى وهارون ، وعيسى بن مريم ، وسليمان وأبي الأنبياء إبراهيم ، وغير ذلك من قصص الأنبياء عليهم جميعا أزكى السلام.

(ج) تنبؤ القرآن ببعض الأمور المستقبلية :

كما تحدثت النصوص القرآنية عن الماضي السحيق ، تنبأت ببعض الحوادث التي ستحدث مستقبلا ، والثابت أن تلك الحوادث قد جرت بنفس الكيفية التي أخبر عنها القرآن الكريم ، فقد حدث ما تنبأ به القرآن الكريم في الكثير من المواقف . 

(د) عملية القرآن ومنهجه للهداية والصلاح :

تضمن القرآن العديد من الحقائق العلمية والأسرار الكونية والتي لم يكشف العلم عنها النقاب إلا مؤخرا ، وهذه الحقائق التي أخبر عنها القرآن وكانت أسرارا .. كثيرة كثيرة .. ولسنا هنا في معرض حصرها .. ولكن ما يهمنا هو الأسلوب العلمي الذي انتهجه القرآن للإقناع باعتبار أن القرآن هو شريعة كل زمان وكل مكان .. مع الأخذ في الاعتبار أن القرآن لم يكن يهدف إلى سرد الحقائق العلمية الكونية كحقائق مجرده بقدر ما كان يهدف إلى هداية الناس وتزيين الإيمان إلى نفوسهم بما يمكنهم من أقامة مجتمع صالح ، فضلا عن عبادة الله على أسس صحيحة قويمة ومتينة.

(2) السنة النبوية :

والسنة اصطلاحا تعني ما صدر عن الرسول (r) من قول أو فعل أو تقرير ويقصد بالتقرير رضاه عن أمور حدثت من الغير في حضرته أو أمور حدثت في غيبته وعلم بها (r) مثل موافقة الرسول على قول أو فعل أتاه بعض الصحابة في حضرته سواء بسكوته أو باستحسانه لذلك الفعل أو القول ، وكذلك إقراره لما يبلغه عن أقوال أو أفعال الصحابة التي أتوها خارج مجلسه .

(3) الاجتهاد :

والاجتهاد هنا .. هو اجتهاد في الرأي ، سواء فيما يتصل بتفسير القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية الشريفة ، أو فيما يتصل بإبداء الرأي حول أمر لم يرد فيه نص قرآن أو لم تتناوله السنة النبوية.

( أ ) قول الصحابي :

والصحابي عند الأصوليين هو من لقى الرسول وآمن به ولازمه مدة تكفي لتحقيق معنى الصحبة ، وعلى كل فعلماء الأصول يعرفون الصحابة ويعدونهم بالاسم .

(ب) الإجماع :

يقصد بالإجماع اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول (r) على حكم من الأحكام الشرعية العملية .

(ج) القياس :

يعني القياس .. إلحاق فرع بأصل في حكمه لمساواته له في علة هذا الحكم ، والقياس يعني في الفقه – المساواة – وللقياس أركان أربعة هي ، أصل يقاس عليه وورد فيه نصر من الكتاب أو السنة أو أجمع عليه ، وفرع يقاس أي يطلب فيه الحكم بطريق القياس ، والحكم الذي صدر على الأصل والذي يراد مساواة الفرع فيه ، وأخيرا علة الحكم ويشترط أن تكون واحدة في الأصل والفرع.

(4) المصادر الفرعية أو التبعية :

وتضم الاستحسان والمصالح المرسلة والعرف والاستصحاب وسميت هذه المصادر بالفرعية أو التابعة أو التبعية لأنها نابعة عن المصادر الأربعة الرئيسية وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، وتعتبر تابعة ومتممة لها .

(5) الشرائع السابقة :

الشريعة الإسلامية جاءت متممة للشرائع السماوية التي سبقتها ، ولم تنسخ من تلك الشرائع إلا ما نزل منها لأسباب خاصة أو لزمان معين ، وكثيرا ما يذكر القرآن أو تروى السنة النبوية بعضا من الأحكام التي أوردتها الديانات السابقة على الإسلام كاليهودية والمسيحية .

(6) التفلسف والتشيع :

نتيجة لاختلاف المسلمين بعد استشهاد ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان (t) وتولي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أمور خلافة المسلمين ، ومنازعة معاوية  بن أبي سفيان له ، وما صاحب ذلك كله من صراعات فكرية ما لبثت أن تحولت إلى صراعات دامية ، نتيجة لذلك ظهرت العديد من الفرق والأحزاب التي تشايع فريقا دون فريق .

الفصل الثامن

معالم الفكر السوسيولوجي الإسلام والعربي

اختلط الفكر الاجتماعي العربي بالإسلام وامتزج به ولا نريد هنا أن ندخل هذا الميدان الرحب ، لأن موضوع الاجتماع الإسلامي سوف يكون لنا فيه حديث طويل .. طويل بإذن الله ، ولكن الذي يعنينا في هذه العجالة .. هو أن نؤكد أن الفكر الاجتماعي العربي ، وخصوصا خلال مرحلة صدر الإسلام – أيام الخلفاء الراشدين والدولة الأموية ، كان هذا الفكر نتاجا مباشرا للإسلام كدين ودولة ، وللقرآن الكريم كدستور واضح لكل مجالات الحياة ، وللسنة النبوية الشريفة سواء القولية منها أو الفعلية أو التقريرية التي أبانت وأوضحت وحددت معالم الطريق لصلاح الدين والدنيا.

(1) في مرحلة الجاهلية .. أي فيما قبل الإسلام : 

تميز الفكر الاجتماعي العربي بالتلقائية ، وحمل لواءه الشعراء ، وبعض المصلحين الدينيين الذين ثاروا على الوثنية وتبنوا الدعوة لديانات جديدة كالحنيفية وما إليها ، علاوة على التأثيرات المختلفة للقادة من رؤساء القبائل ومشايخها من جهة ، ولبعض المدن نظرا لوضعيتها الممتازة – كمكة المكرمة – من جهة أخرى .

مع عدم إنكار دور الأسواق .. كسوق عكاظ التي كانت تعتبر علاوة على أهميتها التجارية ، ندوة يلتقي فيها الفكر العربي على اختلاف أنواعه لا سيما الأدبي منه وبصورة خاصة الشعر.

(2) مرحلة الدعوة المحمدية :

وتميزت هذه المرحلة ببروز الدين الإسلامي الحنيف ، وبوضوح وسيطرة الوحي الإلهي ممثلا في القرآن الكريم علاوة على وجود شخصية أسرة مقنعة قوية كاملة ، وهي شخصية سيدنا رسول الله (r) وهو وحده كقيادة ملهمة كان له الفضل الأكبر في إرساء دعائم نظرية اجتماعية إسلامية استطاعت أن تغير الأوضاع المجتمعية التي كانت سائدة وترسي دعائم مجتمع جديد احتوى على أمة وصفها القرآن الكريم بأنها ) خير أمة أخرجت للناس ( .

(3) مرحلة الخلفاء الراشدين :

وتميزت هذه المرحلة .. بمحاولة ملء الفراغ الذي نشأ عن انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى ، وكان ذلك الفراغ كبيرا ورهيبا في نفس الوقت .. تشعبت اتجاهاته .. واكتسى العديد منها بوعورة لم يحطمها سوى السعي إلى الشهادة والموت في سبيل الله .

(4) في عصر الدولة الأموية :

فبعد أن فرغ معاوية بن أبي سفيان من حرية مع سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه تفرغ لتأسيس ملكه من جهة ، ولتوطيد دعائم الإمبراطورية الإسلامية سواء بحماية حدودها أو بتوسيع هذه الحدود .

(5) في عصر الدولة العباسية :

بدأ انفتاح جديد ورهيب .. انفتاح بفضل جني ثمرات الفتوحات الإسلامية المظفرة ، وانفتح بفضل الانتقال والامتزاج الحضاري والثقافي الذي تم بين الغالب والمغلوب – أعني بين الفاتحين المسلمين وبين الشعوب التي فتحوها .

(6) في العصر العثماني :

لعل العصر العثماني بشهادة كل المؤرخين كان من أظلم العهود التي عاشتها الأمة العربية ، وخصوصا أن العرب قبل الفتح العثماني وبعد أن تفرقوا إلى شيع ودويلات ، كانوا قد تعرضوا للعديد من المحن على يد التتار والمغول تارة والصليبيين تارة أخرى ، واضطروا إلى أن يسلموا زمام الحكم والحرب إلى العديد من الطوائف والفرق غير العربية الأصل كالأكراد والجركس والتركمانيين والمماليك وما إليهم .

الفصل التاسع 

الحركات الإصلاحية الإسلامية المعاصرة 

ارتبطت الحركات الإصلاحية الإسلامية المعاصرة بالدين ، وانطلقت من اعتقاد راسخ بأن الضعف والوهن الذي أصاب العالم العربي والإسلامي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي ، وعلى وجه الخصوص أيام حكم الإمبراطورية العثمانية وما تلا ذلك من زحف الاستعمار الغربي على أجزاء عديدة من العالمين العربي والإسلامي ، أن ذلك الضعف والوهن إنما يعودان بالدرجة الأولى إلى بعد الحكام عن مبادئ الدين الإٍسلامي الحنيف .

لذلك كان هناك اقتناع بأن أي محاولة لإصلاح حال المسلمين لابد أن تبدأ أولا بالإصلاح الديني الذي يرد عن الدين كل ما علق به.

ومن أبرز ملامح الفكر الديني والاجتماعي لأولئك المصلحين أن دعوتهم امتزجت خلالها السياسة بالدين على اعتبار أن الاستعمار الغربي كان قد بدأ يغرس أنيابه في بدن الأمة الإٍسلامية حتى أدماه ، ولم يكن من سبيل لصحوة ذلك البدن الجريح غير نداء يهزه من الأعمال وينسيه الألم .. ونعني به نداء الدين الذي كان العصا السحرية في يد أولئك المصلحين إذا ما أرادوا إصلاح دين أو صلاح دنيا أو مقاومة دخيل أو لم شمل.

المبحث الأول 

الوهابية كحركة إصلاح دينية واجتماعية 

حقيقة الدعوة الوهابية :

انطلقت الدعوة الوهابية من فكرة مؤداها أن ما أصاب المسلمين من ضعف وتخلف إنما يعود إلى انحرافهم عن العقيدة الدينية السليمة ، وأنه لا سبيل إلى إصلاح حال المسلمين إلا بعودتهم إلى كتاب الله وسنة رسوله .

كما أرجع إمام الدعوة الوهابية .. الجمود الذي أصاب الفكر الديني الإسلامي إلى إغلاق باب الاجتهاد أمام من يحسنون فهم الكتاب والسنة كمصدرين أساسيين للتشريع الإسلامي ، وذلك لأن الاجتهاد هو المدخل الصحيح لحل كل مشكلات العصر على ضوء المبادئ الإسلامية السليمة والسنة النبوية الشريفة .

مصادر الفكر الديني الوهابي :

هذا ويتمثل الفكر الديني الوهابي في مصدرين أساسيين أولهما كتاب التوحيد الذي أصدره إمام الدعوة الوهابية والذي أوضح خلاله طبيعة التوحيد وما يراه مخالفا لتلك الطبيعة من مظاهر وبدع وخرافات ، مع تأكيده على ضرورة العودة إلى الكتاب والسنة .

أما المصدر الثاني فهو الرسالة التي وضعها الشيخ عبد الله بن عبد الوهاب وهو ابن إمام الدعوة الوهابية ، والتي أسماها (الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية) وشرح الشيخ عبد الله في رسالته تلك حقيقة الدعوة الوهابية وردها إلى أصول وفروع ، فالأصول تعود إلى مذهب أهل السنة والجماعة وتسير على نهج السلف ، أما الفروع فتعود إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وإن كانت لا تنكر من قلد أحد الأئمة الأربعة (مالك والشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل) .

المبحث الثاني 

السنوسية ودورها الاجتماعي والديني 

ميلاد الدعوة السنوسية 

نهضت الدعوة السنوسية في الشمال الأفريقي على يد السيد محمد بن على السنوسي الخطابي الجزائري الأصل وكان ذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي .

ملامح الدعوة السنوسية :

في مجال العقيدة الدينية اتسمت الدعوة السنوسية بالبساطة والبعد عن متع الدنيا وملذات الحياة ، ونشر الإخوة والمحبة والتعاون والتكافل بين المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

طبيعة الدعوة السنوسية :

ولم تحرم السنوسية زيارة الأولياء والمشايخ والمقامات إن كان ذلك التماسا للموعظة والأسوة الحسنة وبغير تقديس أو إشراك بالله ، مع التأكيد على الاجتهاد كمصدر للتشريع لمواكبة تطورات العصر وإصلاح حال المسلمين .

ملامح الدعوة السنوسية :

من أبرز ملامح الدعوة السنوسية كحركة إصلاح اجتماعية أنها  :

1- جعلت الإسلام سلوكا من خلال الممارسة اليومية التي امتزجت فيها العبادة بالعمل.

2- ارتكزت على الأسوة الحسنة .

3- حرمت السنوسية على أتباعها كل ما يمت للتواكل بصلة وطالبتيهم بضرورة السعي والكد من خلال العمل بالزراعة أو التجارة أو الصناعة الحرفية .

4- عمقت مبادئ التكافل والتضامن والتعاون .

5- بلغت الدعوة السنوسية درجة عالية من التنظيم الاجتماعي والسياسي والإداري .

الباب الثالث

رواد الفكر السوسيولوجي العربي والإسلامي

الفصل العاشر

أبو النصر محمد الفارابي

الفارابي (257 – 339 ه)

صحيح أن آراء الفارابي الاجتماعية قد اختلطت لدية بالكثير من الآراء الفلسفية والفقهية .. وخصوصا ما اتصل منها بالفلسفة اليونانية والإسلامية ، إلا أن هذه الآراء إن دلت على شيء ، إنما تدل على اجتهاد سوسيولوجي مبكر اتجه نحو دراسة المجتمع والعمل على صلاحه ووفقا لأسس مثالية تزاوجت خلالها الفلسفة بالدين ومثلت آراء أفلاطون حجر الزاوية فيها .

( أ ) ضرورة التجمع الإنساني :

أوضع الفارابي من خلال إيمانه بالكثير من آراء أفلاطون وأرسطو ، أن الاجتماع الإنساني ضروري ، وذلك راجع – كما أوضح الفارابي – إلى أن الإنسان مفطور على حاجاته إلى الاجتماع والتعاون .

(ب) أشكال التجمع الإنساني :

تناول الفارابي أشكال التجمع وبينها على أساس فريد حيث أوضح أن من هذه الأشكال ما يمكن أن يوصف بأنه اجتماعات إنسانية كاملة ، ومنها ما يصفه بأنه غير كامل ، ثم رتب تلك المجتمعات الكاملة تدريجيا إلى ثلاثة مستويات تتراوح ما بين العظمى والوسطى والصغرى ، وارتكز الفارابي في تقسيمه لأشكال التجمعات الإنسانية على حجم كل منها ومقدرته على سد وإشباع احتياجات أعضائه ، ويرى الفارابي أن المجتمعات العظمى تتمثل في اجتماعات الجماعة كلها على المستوى الإنساني في المعمورة ، أما المجتمعات الوسطى فيمثلها اجتماع أمة على المستوى القومي في جزء من المعمورة ، أما المجتمعات الصغرى فتمثل اجتماع أهل مدينة على المستوى الإقليمي أو المحلي وفي جزء من مسكن أمة .

(ج) طبيعة المدن :

المدن عند الفارابي .. إما مدن فاضلة .. أو غير فاضلة .. والفيصل بين هذه وتلك كما يقول الفارابي أن يكون هدف الاجتماع الإنساني خلالها هو (التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة) وإذا ما تحققت تلك السعادة القائمة (على الحقيقة) فتكون تلك (هي المدينة الفاضلة).

وحدد الفارابي الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يتولى رئاسة المدينة الفاضلة في اثنى عشر شرطا أو فضيلة على حد تعبير الفارابي ، منها ست فضائل مطبوعة أو موروثة ومنها ست أخرى تعود إلى الملكة الإرادية أو الاكتساب .

(2) المدينة غير الفاضلة :

وهي بالضرورة مدينة أو مدن لا تتوافر لها نفس مواصفات المدن الفاضلة سواء من حيث طبيعة التكوين أو من حيث الرئاسة ، ولكن الفارابي قسم المدينة غير الفاضلة إلى خمس مراتب أساسية تتراوح ما بين المدن المستقلة أو الكاملة وهي مدن الجاهلية والمدن الفاسقة والمدن المتبدلة والمدن الضالة ، حتى يصل إلى النوابت أي النتوءات الشاذة التي تبرز خلال المدينة الفاضلة ذاتها.

(د) عوامل توحد المجتمع كما حددها الفارابي :

تناول الفارابي من خلال حديثه عن المدينة الفاضلة مقومات توحد المجتمع وصنفها في عوامل جنسية عرقية كوحدة الجنس والسلاسة والانحدار من أب واحد ، وعوامل ثقافية كالاشتراك في المعتقدات أو اللغة أو اللسان ، وعوامل طبيعية كالاشتراك في الصقع أو البيئات الطبيعية ، وعوامل اجتماعية كالاشتراك في النسب المصاهرة وأخيرا عوامل نفسية كتشابه الخلق والشيم الطبيعية.

(ه) نشأة السلطة ووظيفتها في المجتمع :

تعرض الفارابي للسلطة من حيث نشأتها ووظيفتها في المجتمع ، واعتبرها قانونا ينهض في المجتمع ليمنع العدوان والغضب والظلم ، وليحقق العدل ، وضرب لذلك العديد من الأمثلة من واقع الحياة الاجتماعية للمجتمع وخصوصا ما تعلق منها بعمليات البيع والشراء والأمانة في رد الودائع والكف عن الجور (الظلم) وأبرز الفارابي كذلك أهمية الخوف الناتج عن وجود السلطة ودورها في استمرار التزام الناس بالخصال الحميدة .

(و) عوامل انحلال المجتمع وتفككه :

كما تعرض الفارابي للعوامل الموحدة للمجتمع ، تعرض أيضا للعوامل التي تؤدي إلى تحلله وفنائه ، ولعل أهم عامل في فساد المجتمعات أو المدن كما أوضحه الفارابي هو بعدها عن أسباب الفضيلة وعدم قدرتها على تحقيق السعادة بالمفهوم الذي قصد إليه الفارابي علاوة على عدم توافر الرئيس القادر على القيادة والريادة فضلا عن غياب رابطة القهر والقوة التي تمثلها السلطة.

الفصل الحادي عشر

الإمام أبو حامد الغزالي

الإمام الغزالي (450 – 505 ه)

تميز أسلوب الإمام الغزالي في التعبير .. بالبساطة بحيث جعل كتاباته صالحة لكل قارئ كما تميزت كذلك كتابات الإمام الغزالي باستخدام التشبيهات والخيال الواسع مع استخدام المحسنات اللغوية التي تشد وجدان القارئ وفكره إلى ما يقرأ .

الفعل الاجتماعي أو الإنساني لدي الإمام الغزالي :

يقوم الفعل الاجتماعي والإنساني عند الإمام الغزالي وينهض على مبدأ أخلاقي ، وينطلق من قاعدة .. الخير والشر .. فالعمل الذي يجب أن يعمل أو يحسن أن يعمل هو الخير أما العمل الذي يجب ألا يعمل أو ينبغي ألا يعمل فهو الشر ، كما أن لكل من الخير والشر درجات عند الإمام الغزالي ، لذلك فقد قسم الأفعال الاجتماعية أو الإنسانية إلى :

- حرام .. وهو المقول فيه ، اتركوه ولا تفعلوه .

- واجب .. وهو المقول فيه افعلوه ولا تتركوه .

- مباح .. وهو المقول فيه ، أن شئتم فافعلوه ، وإن شئتم فاتركوه .

ويحذر الإمام الغزالي من أن يوصم الفعل الإنساني بالقبح على طول الخط ، وإنما يجب أن يرتكز ذلك على قاعدة أخلاقية مستمدة من أوامر نواهي الشريعة الإٍسلامية ونبه إلى أمرين أساسيين :

( أ ) أن الأفعال الحسنة .. هي تلك التي توافق غرض الفاعل .. أي تحققه .. ولكن يبقى الفعل الحسن دائما هو ذلك الفعل الذي يساير قواعد الشريعة الإسلامية .. بل هو الفعل الذي وعد الله فاعله بالثواب في الآخرة .

(ب) أن بعض الأفعال قد توصم زورا وبهتانا بالقبح ، وإن لم تكن غير ذلك لأن الإنسان :

- يطلق اسم القبح على ما يخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره .. لأن كل طبع مشغوف بنفسه .

- قد يخدعه ظنه أو وهمه أو عدم فهمه للأفعال كما يجب فيطلق القبح كسمة على بعض الأفعال دون تبصر بها .

منهج الإمام الغزالي في التنشئة الاجتماعية :

للإمام الغزالي فكر خاص في موضوع الأخلاق الحسنة سنمر عليه مر الكرام حتى نصل إلى فكره الخاص بعملية التنشئة الاجتماعية .

(1) ما هي الأخلاق الحسنة ؟ 

الأخلاق الحسنة كما عرفها الإمام الغزالي ضمن كتابع (الإحياء) بأنها ( عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية ، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا ، سميت تلك الهيئة خلقا حسنا ، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا ) إذن الخلق هو : ( عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة ) .

الحقوق والواجبات كما يراها الإمام الغزالي :

يمثل رأي الإمام الغزالي في هذا الشأن .. ملمحا من ملامح الدين الإسلامي ذاته فقد حدد واجبات الفرد تجاه نفسه وتجاه ربه ، ونحو أخيه وجاره ووالديه وأبنائه ، وبين ذلك آداب التاجر والصانع والمسافر ، مع مراعاة أن الإمام الغزالي كان يستخدم كلمة (حق) بمعنى (واجب) وكثيرا ما يستغني عنهما بكلمة أدب .

الإمام الغزالي واصل المجتمع الإنساني :

عالج الإمام الغزالي أصول المجتمع الإنساني وتطوره من خلال كتابه (ذم الدنيا من الأحياء) ولم يكن الهدف الأول للإمام الغزالي وضع نظرية تفسير أصل المجتمع وتوضح كيفية تطوره بقدر ما كان يهدف إلى تأكيد حقيقة مؤداها أن الهدف الأسمى للإنسان هو سعيه الدائب وراء معرفة الله ، ولكن ذلك الإنسان يولد في مجتمع ينشأ بالضرورة نتيجة لعجز الفرد عن توفير العيش لنفسه معتمدا على قدرته وحده ، وأن الله سبحانه وتعالى قد فرض حتمية المجتمع في خلقه للطبيعة الإنسانية كما هي عاجزة أولا عن تلبية معظم الاحتياجات البشرية بمفردها ، وراغبة ثانيا في التجمع ضمانا لبقاء الفرد وسلامته .

الفكر السياسي لدي الإمام الغزالي :

واجبات الملك :

1- أن يعرف قدر الولاية وخطرها ، وما يكون من سعادته إذا أحسن ومن شقائه إذا أساء.

2- ألا يقنع برفع يده عن الظلم ، بل يهذب علماءه وأصحابه وعماله ، ونوابه ، فإنه عن ظلمهم مسئول .

3- ألا يتكبر ، فإن التكبر داعية الغضب والانتقام .

4- أن يفرض نفسه واحدا من الرعية في كل ما يعرض عليه فما لا يرضاه لنفسه لا ينبغي أن يرضاه لأحد من المسلمين .

5- ألا ينشغل بنوافل العبادة ، وببابه أحد أرباب الحوائج.

6- ألا يعود نفسه الاشتغال بالشهوات : من لبس الثياب الفاخرة ، وأكل الأطعمة الطيبة ، بل يتعود القناعة في جميع الأشياء ، فلا عدل بلا قناعة .

7- أن يتجنب الشدة والعنف كلما أمكن الرفق .

8- أن يجتهد في أن ترضى عنه الرعية بموافقة الشرع .

9- ألا يطلب رضا أحد من الناس بمخالفة الشرع .

10- أن يعين رعيته إذا وقعت في ضائقة ، وأن ينفق عليها من خزائنه ، إذا وقعت في قحط أو غلاء ، لأن في ذلك استبقاء لطاعتهم ودرءا لمطامع المحتكرين .

واجبات الوزراء :

حدد الإمام الغزالي واجبات الوزراء في ثلاث نقاط أساسية هي :

1- أن يكون الوزير محبا للخير ، مبغضا للشر.

2- أن يعين الوزير الملك على الشفقة بالرعية إذا رأي منه الميل لذلك .

3- أن يرشد الوزير الملك باللطف إذا رأى منه ميلا للظلم .

الفصل الثاني عشر

إخوان الصفا

مقدمة حول إخوان الصفا :

إخوان الصفا أو إخوان الصفاء ، من أكثر الجماعات الفكرية الإسلامية إثارة للجدل ، ولم يقتصر الجدل حول الغموض الذي اكتتف شخصياتهم فقط ، وإنما امتد ليشمل أفكارهم أيضا وخصوصا ما تعلق منها بالأسباب والأهداف الحقيقية التي جعلتهم ينشرون رسائلهم .

سماتهم العقلية والفكرية :

وصفهم أبو حيان التوحيدي في كتابه المقايسات المشار إليه فقال : ( هناك ذكاء غالب وذهن وقاد ، ومتسع في قول النظم والشعر مع الكتابة البارعة في الحسابات والبلاغة ، وحفظ أيام الناس ، وسماع المقالات وتبصر في الآراء والديانات .

كان ذلك عن سمات إخوان الصفا العقلية ، فماذا عن سمات فكرهم ؟

يواصل أبو حيان وصف مذهبهم قائلا .. ( فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله  وأن هذا المذهب ، لا ينتسب إلى شيء ولا يعرف برهط لجيشانه بكل شيء وغليانه بكل باب ولاختلاف ما يبدو من بسطته ببيانه وسطوته بلسانه ) . 

الفصل الثالث عشر

ابن مسكويه

ابن مسكويه : 

على كل حال يمكننا أن نعرض لأهم الآراء الاجتماعية لابن مسكويه على النحو الآتي :

1- تعتبر دراسة ابن مسكويه عن الأخلاق ، دراسة للقيم التي تشكل عنده أساسا للحياة الاجتماعية من جهة ، والتي تعتبر من جهة أخرى مقياسا لكمال الإنسان.

2- الأخلاق كسلوك هي مصدر الأفعال الجميلة غير المتكلفة وليس معنى هذا في رأي ابن مسكويه – أن تلك الأفعال أفعال عفوية بل هي أفعال واعية بالدوافع والأهداف.

3- أوضح ابن مسكويه أن الأخلاق كمصدر للفعل الإنساني إنما تنبع عن النفس لا عن الجسد ، ومن هنا فإن الصراع لابد أن يحتدم بين الخير والشر خلال النفس الإنسانية حتى تتطهر النفس بالقضاء على الرذيلة .. مع الأخذ في الاعتبار – أن الصراع هنا – هو صراع قيمي حتى تتحقق في النهاية تلك الأفعال الجميلة .. أو الأخلاقية على حد تعبير ابن مسكويه .

4- يؤمن ابن مسكويه بأن الأخلاق هي مصدر الأفعال الإنسانية .. يمكن أن تكتسب إما بالتعليم أو من خلال عملية التنشئة الاجتماعية وخصوصا من خلال عملية التقليد .

5- أوضح ابن مسكويه أن الأخلاق – كمصادر للأفعال الإنسانية – يمكن أن تتغير كما حدد أنماط الفضيلة – كمشتق عن الأخلاق الحميدة – بأربعة أنماط هي العفة والشجاعة والعدالة والكرم.

6- فرق ابن مسكويه بين قيم الخير والسعادة ، واعتبر أن الأولى قيمة عامة باعتبار أن الخير يعم المجتمع بأسره ، بينما السعادة قيمة خاصة لعاملين أولهما أنها حالة فردية تختلف من فرد لآخر ، وثانيهما أن الإحساس بها نسبي يختلف من شخص لآخر كذلك .

7- اتفق ابن مسكويه مع غيره ممن سبقه بأن الاجتماع الإنساني ضرورة اجتماعية خلقية أو خي (خاصية اجتماعية) على حد تعبير ابن مسكويه ، لكنه اعتبر أن الأخلاق هي عماد ذلك الاجتماع لأن الإنسان لا يبلغ كماله إلا مع أبناء جنسه وبمعونتهم .

8- المجتمع في رأي ابن مسكويه هو الإطار الذي يجب أن يحتوي كلا من الأخلاق والأفعال الإنسانية ، لأن كل قيم التعاون والمحبة والإخاء لا يمكن أن تظهر أو تثمر إلا في جماعة ، ومن هنا كانت الجماعة أو المجتمع ضرورة – بل وضرورة أخلاقية كما يقول ابن مسكويه .

9- لجأ ابن مسكويه إلى تشبيه المجتمع بالكائن العضوي ، وهو في ذلك متأثر بالفارابي .. وسابق من حيث فكرة المماثلة العضوية التي اعتنقها عديد من السوسيولوجيين المعاصرين المهم أن ابن مسكويه كان يرى في المجتمع كائنا حيا تتضامن أعضاؤه من أجل تحقيق الخير والسعادة ، وأن ذلك التضامن يرتكز في رأي ابن مسكويه على العدالة والدين .

(10) يؤمن ابن مسكويه بأن العدل ضرورة اجتماعية لصلاح حال المجتمع ، وأنه على الحاكم أن يلتزم به وأن يجعله شرعة الناس . وإن كان ابن مسكويه يرى أن التزام الحاكم بالعدالة هو الأساس الأول لإقامة المساواة بين الناس ، لأنه لا أمل في التزام الناس بالحق والعدل والأخلاق ما لم يلتزم بها الحاكم .

(11) تحدث ابن مسكويه عن عوامل تفكك المجتمع وانعدام التضامن بين أعضائه ، وحددها في عدم اتباع نفس مقومات قيام المجتمع وبقائه .. وهي عدم توافر العدل .. من خلال عدم اتباع ناموس الله ، وعدم توافر الحاكم الذي يطبق أوامر الله وشريعته ، وعدم احترام العدل في مختلف المعاملات بين أفراد المجتمع ، وهي كلها أمور تؤدي إلى فساد الحياة وانحلال القيم بما يستتبع ذلك كله من خلال في البناء الاجتماعي للمجتمع .

(12) ربط ابن مسكويه بين البيئة الطبيعية وبين العديد من الصفات والخواص الموروثة والمكتسبة ، وذلك من خلال كتابة (الفوز الأصغر) وأبرز التأثيرات المختلفة لاعتدال المناخ أو جنوحة على خصال موروثة كالذكاء وحسن الفهم والهمة ، وأخرى مكتسبة كالثقافة والتيقظ للأمور والحذق في الصناعات واستخراج غوامض العلوم ، وابن مسكويه في هذا المجال سابق لغيره ممن تناولوا هذا الموضوع.

(13) رتب ابن مسكويه النفس البشرية إلى مراتب ، وشابه ما بين النفس البشرية في بعض درجاتها المنحطة وبين الحيوان.

(14) يؤمن ابن مسكويه بأن المشاركة – بين الناس بعضهم وبعض وفي كل المواقف سواء الوجدانية منها أو الفعلية – هي أساس تحقيق التكافل والتعاون بين مختلف أفراد المجتمع ، واعتبر أن تلك المشاركة ليست منه ، بل هي تصل عنده إلى حد الواجب.

الفصل الرابع عشر

أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني

البيروني 362 ه – 440 ه 

قيل عنه سميث في كتابه تاريخ الرياضيات أن البيروني كان ألمع زمانه في الرياضيات وأن الغربيين مدينون له بمعلوماتهم عن الهند ومآثرها في العلوم .

1- ثقافة البيروني :

تتلمذ البيروني على يد أساتذة عصره في الرياضيات والفلك والطب والتقاويم والتاريخ ، واتصل بالعديد من فلاسفة ذلك العصر وحاورهم ومنهم ابن سينا .

وكان البيروني متمكنا من أصول اللغة العربية عالما بأسرارها وقواعدها وآدابها وكان يجيد إلى جوارها اللغة الفارسية واللغة السنسيكرتية لغة الهند واليونانية والعبرية والسريانية .

وعرف عنه أنه على جانب كبير من الدهاء والذكاء الخارق علاوة على سعة الحيلة كما نال الحظوة والمكانة الأثيرة عند أمراء القرن الرابع .

وكان إلى جانب علمه وسعة إطلاعه .. يتمتع بسمات الناقد الجريء الذي ينتقد الأمور ويبدي رأيه فيها في حرية وشجاعة ممزوجتين بالإخلاص والتسامح وكلها صفات جعلت البيروني عملة نادرة.

2- تراث البيروني :

ترك العديد من المؤلفات منها كتاب (الآثار الباقية عن القرون الخالية) ، (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) ، (القانون المسعودي) وله العديد من الكتب التي ترجمت من اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية والعكس.

3- منهج البحث البيروني :

قال : إن أقرب الأسباب لمعرفة التواريخ التي تستعملها الأمم هو معرفة أخبار الأمم السابقة وأنباء القرون الماضية .

1- كان البيروني يرى أن تحصيل المعرفة لا يمكن إلا أن يتم بغير البحث والتجربة وحارب اعتناق الآراء في تسليم ودون تمحيص أو تحقيق وطالب بحسن استخدام العقل في إخضاع الأشياء محل البحث للعديد من التجارب .

2- حذر البيروني من التقليد وطالب كل صاحب رأي أن يستوثق جيدا مما يقول قبل أن يجاهر برأيه ، ودعا إلى عدم التمسح بعبارة الله أعلم لمداراة الجهل بحقائق الأمور.

3- وكان البيروني يعود للمصادر الأصلية فيما يكتبه ويلتزم بما فيه التزاما تمليه عليه أمانته العلمية . 

4- كما دفعته رغبة البحث الأصلية المتوافرة لديه لأن يتعلم اللغات الأصلية للأمم والشعوب التي يكتب عنها أو يدرسها فقد تعلم اليونانية والفارسية ...

5- كما أنه ولع بالرياضيات وعلوم الفلك والطب جعله ميالا إلى أسلوب الاستقصاء والاعتماد على الحس في طلب المعرفة .

الملامح العامة للمنهج البيروني في البحث العلمي :

1- الاعتماد على الملاحظة المباشرة دائما والملاحظة المشاركة أحيانا.

2- الاعتماد على التجارب المعملية والميدانية كلما كان ذلك ممكنا.

3- استخدام العقل سواء في الاستنباط أو التعليل .

4- رفض أية وسائل غير حسية أو ملموسة كسبيل للوصول إلى المعرفة .

5- رفض تقليد الآخرين سواء من حيث أسلوب الكتابة أو من حيث المنهج المستخدم.

6- الرجوع إلى المصادر الأصلية كما كان ذلك ممكنا .

7- التأكد من عدم فساد الآراء من خلال التأكد من صحتها وثبات نتائجها وذلك قبل الجهر بها.

8- الاعتماد على أساليب القياس الكمي والاستقصاء الحسي كلما كان ذلك ممكنا.

9- الاستمرار في البحث والمواظبة عليه ، لأن نجاح الإنسان (موهبة من الله تعالى) ولكن لا يمكن تحقيقها إلا بالمواظبة الدءوب على الممارسة .

من أهم إسهامات البيروني :

1- أرسى البيروني قواعد المنهج التاريخي والمقارن خلال كتابه الآثار الباقية عن القرون الخالية ويتبع الخطوات الآتية :

أ- الاتصال بمصادره المختلفة ممن توسم فيهم أن يكونوا عونا له فيما ينشده من معلومات .

ب- القيام بمقارنة المعلومات التي تحصل عليها من مختلف المصادر واستبعاد ما اعتمد منها على الهوى والتعصب.

ج- القيام بنقد ومراجعة تلك المعلومات والأخذ بما يثبت صحته منها على أن يكون ذلك كله مقبولا ومعقولا وبعيدا عن كل شك أو ريبة .

2- تميز البيروني عن غيره من المؤرخين بأنه طبق طريقة فريدة في البحث التاريخي زواج خلالها ما بين الفلك والتاريخ حيث كان يقدم لذكر الحوادث التاريخية بمقدمات فلكية عن طريق استخدام الجداول ذات الرموز الفلكية التي تضم تواريخ وسير الأمم المختلفة.

3- كان يقدم لموضوعاته بمقدمة قصيرة تتناول الخطوط العريضة لما سوف تتضمنه دراسته ثم ما يلبث أن يسهب ويستفيض بعد ذلك .

4- أرسى دعائم الملاحظة المشاركة بشكل خاص والملاحظة العلمية بشكل عام خلال قيامه بتأليف كتاب الهند الكبير .

5- أرسى قواعد استخدام المنهج الكمي واللجوء إلى الاستنباط والتعليل أثناء تعامله مع مختلف الظواهر الاجتماعية من خلال دعوته إلى الاتحاه الإشراقي وعدم تعليق أخطاء الجهل على شماعة العبارة التقليدية ( والله أعلم )

.

6- استخدم المنهج المقارن عندما كان يتعرض لآراء أهل الهند ثم يقوم بالمقارنة بين هذه الآراء والأفكار وبين غيرها من آراء وأفكار أهل حضارات أخرى كالعرب والفرس واليونان .

7- يعتبر هو الأب المؤسس للأنثربولوجيا . وذلك لأنه :

أ- درس اللغة الهندية وقارنها باللغة العربية وأوضح ما بينهما من نقاط اتفاق واختلاف كما درس مختلف مجالات الثقافة علاوة على الفنون والآداب الهندية السائدة آنذاك .

ب- درس الديانة الهندية وكذلك الفلسفات والمعتقدات والشرائع السادة علاوة على ما سمعه من أساطير تتصل بالدين والحياة والدنيا والآخرة وتعرض لآرائهم في التصوف وأرجع الديانة الهندية إلى أصول يونانية ومسيحية .

ج- عرض العديد من مظاهر البناء الاجتماعي الهندي بما يضمه ذلك من نظم وظواهر اجتماعية وأنماط ثقافية .

د- تعرض البيروني للعلاقات داخل المجتمع الهندي سواء أكانت تلك العلاقات بين النظم وبعضها وبعض أو بين مختلف الفئات المكونة للمجتمع الهندي .

ه- شرح البيروني أصل كثير من الأمم الغبرة خلال كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية).

الفصل الخامس عشر

ابن خلدون

( ابن خلدون : 1332 – 1406 م )

حول أحقية ابن خلدون كمؤسس لعلم الاجتماع :

على الرغم من أن ابن خلدون يحظى بأجحاف متعمد سواء بالنسبة لدوره كمؤسس حقيقي لعلم الاجتماع ، أو حتى بالنسبة لأحقيته لأن يكون عالما سوسيولوجيا على الإطلاق ، وهذا الإجحاف مصدره بالدرجة الأولى علماء الغرب وخصوصا الفرنسيين منهم ، ودوافعهم في ذلك معروفة ، لأنه إما ابن خلدون أو كنت أو دوركايم ، أما المصدر الثاني لذلك الأجحاف فيتمثل في عدم الفهم عن حسن نية أو عن سوئها لدي مواطني ابن خلدون وأبناء جلدته ، وأعني بهم بعض العرب الذين لم يفهموا ابن خلدون وراحوا يكيلون له التهم التي وصلت إلى حد اتهامه بالخيانة والدجل، ولكن ذلك كله لم يمنع محبي ابن خلدون من التصدي للدفاع عنه بتوضيح فكره وتقريبه للناس فعقدت لذلك العديد من المؤتمرات العربية والدولية ، كما صدر عنه وعن تراثه العديد من المؤلفات التي كانت فرصة مواتية ليحتل ابن خلدون مكانه الطبيعي كمؤسس حقيقي لعلم الاجتماع نظرية ومنهجا .

إسهامات ابن خلدون السوسيولوجية :

تتضح الإسهامات السوسيولوجية لابن خلدون من خلال النقاط الآتية :

1- أسس ابن خلدون علمه الوليد ، ليتمكن عن طريقه المؤرخون من فهم الحوادث الماضية وتفسيرها من خلال الكشف عن قوانينها وأسبابها التي تدل على أن تلك الحوادث الماضية تتفق وطابع العمران البشري .

ومن هنا يمكن القول أن هدف ابن خلدون من تأسيس علم العمران والاجتماع البشري ، كان هدفا نظريا بحتا .. سعى من خلاله لتوفير مختلف سبل المعرفة التي تيسر للمؤرخين فهما أعمق لمختلف الظواهر التاريخية التي هم بصدد دراستها والكتابة عنها.

2- ذهب ابن خلدون إلى أن المعرفة التي هي هدف علمه الوليد ، إنما تتحقق عن طريق الاستقراء الفطري الذي هو من حقيقته استقراء علمي تنقصه التجارب المعملية ووسائل البحث الحديثة التي استعان ابن خلدون عوضا عنها بالحس واستخدام المنطق وقياس الذاهب بالحاضر على حد تعبيره .

3- على الرغم من أن ابن خلدون قد أسس علم العمران أو الاجتماع حتى تتوافر للمؤرخين المعرفة بمختلف ظواهر العمران ، أو حتى يمكن دراسة التاريخ دراسة علمية تقوم على المنهج الاستقرائي بعيدا عن الاكتفاء بمجرد النقل أو السماع ، على الرغم من ذلك كله فإن ابن خلدون قد أكد استقلالية علم الاجتماع عندما تحرر من الطابع الديني الفلسفي الذي ميز الدراسات الاجتماعية في عصره كما أنه لم يؤسس علمه على قواعد مثالية كتلك التي صبغت فكر كل من أفلاطون والفارابي خلال دراستيهما الشهيرتين عن جمهورية أفلاطون وآراء أهل المدينة الفاضلة .

4- حدد ابن خلدون بعض موضوعات الدراسة في علم الاجتماع عندما أكد أنه على المؤرخ أن يحصل على قدر من الثقافة من خلال دراسته لمختلف الظواهر الموجودة في المجتمع لأن القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار يكمن في النظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران .

5- على الرغم من تأكيد ابن خلدون لاستقلالية علمه الوليد إلا أنه حدد الصلات الضرورية المشتركة بينه وبين غيره من العلوم التي تشاركه بحث الظواهر المجتمعية ، فإلى جانب الصلة الواضحة بين كل من التاريخ والاجتماع نجد أن ابن خلدون قد أكد الصلة القائمة بين علم الاجتماع وعلم النفس عندما اعتمد على حقائق علم النفس في تفسير بعض الظواهر المجتمعية لما بين أن المغلوب مولع بتقليد الغالب عن طريق المحاكاة ، كما أكد ابن خلدون أهمية البيئة والعوامل الاقتصادية والجغرافية والحضارية في تفسير وفهم الظواهر الاجتماعية .

6- كان ابن خلدون يؤمن بتطور المجتمعات – ليس من منظور إصلاحي فقط ولكن من منطلق أن التغير سمة المجتمع وقدره .. وحدد مراحل تطور كل مجتمع وبين خصائص كل مرحلة .. صحيح أن معظم ما قاله ابن خلدون حول هذا الشأن ما عاد يصلح طبقا للمعايير الحديثة ، لكن يبقى اجتهاد ابن خلدون على أصالته وخصوصا ما اتصل منه بتشبيهه للمجتمع في تطوره بالكائن الحي وتحديده للحالات أو الأجيال الأربعة التي يتطور إليها المجتمع وهي حالات .. البداوة ، الملك ، الحضارة ، ثم الهرم .

7- كان ابن خلدون يرى أن المجتمع إن هو إلا كيان طبيعي تسيره مجموعة من القوانين العامة ، ومن هنا كان لابد من الكشف عن تلك العوامل التي تؤثر في ذلك المجتمع سواء من حيث نشأته أو تطوره أو من حيث ثباته أو استقراره .

8- أكد ابن خلدون أن المجتمع البشري تتنازعه مجموعتان من الظواهر تبدوان للوهلة الأولى متنافرتين .. ونعني بهما مجموعة الظواهر الطبيعية ومجموعة الظواهر الاجتماعية ويقرر ابن خلدون أن المجتمع ليس هو منشئ الظواهر الطبيعية ، وإنما هي موجودة وتتمتع باستقلال ذاتي ولكنها تؤثر في المجتمع ، وعليه أن يكيف نفسه طبقا لنتائجها ومؤثراتها ، وذلك على العكس من الظواهر الاجتماعية فإن نشأتها تعود للمجتمع ذاته فضلا عن تميزها بالتساند والتشابك .

نقول أن ابن خلدون لم يكتف بنقد سابقيه وإنما قدم البديل منهجا واضحا للبحث يكاد يكون على أصالته حتى اليوم ، حيث حدد ابن خلدون واجبات المؤرخ والباحث في تناولهما لظواهر العمران على النحو الآتي :

1- يجب الاعتماد على الملاحظة المباشرة وما تؤدي إليه التجربة العملية من خلال منهج التجريب الذي ابتدعه ابن خلدون أيضا.

2- يجب تفسير الظواهر وتحليلها واستخدام منطق (التعليل) .

3- يجب الاعتماد على منطق المقارنة أو منهج البحث المقارن .

4- يجب قياس الأخبار على أصول العادة وطبائع العمران .

5- يجب دراسة تطور الظواهر والنظم العمرانية في سياق غيرها من الظواهر المجتمعية .

الفصل السادس عشر

رواد آخرون على درب الفكر السوسيولوجي العربي والإسلامي

ابن رشد :

ذلك الفيلسوف الذي ضرب به المثل في شجاعة الرأي وعزة النفس وقوة الشخصية ، صاحب الآراء التي سبقت عصره وأثرت ليس فقط على مجتمعه العربي أو الإسلامي ، بل وامتد تأثيرها ليشمل المجتمعات الغربية بفكرها المسيحي الكنسي وخصوصا في أوروبا للدرجة التي اضطرت معها الكنيسة إلى أن تصدر قرارا كنسيا بتحريم قراءة كتب ابن رشد أو تداول أفكاره وآرائه بأية صورة من الصور وكان ذلك في القرن الثالث عشر الميلادي ولعل أهم آراء ابن رشد التي جلبت عليه سخط الكنيسة كانت دعوته للحرية بما فيها حرية المرأة وانتقاده لتقييد الرجل زوجا كان أو أبا أو أخا لحرية المرأة ، ودعا ابن رشد ذلك الولي لأن يتيح للمرأة الفرصة لتكون طاقة منتجة في المجتمع .

ابن فضلان :

ومنهم أيضا الفقيه العالم (ابن فضلان) الذي قدم دراسة وصفية لأحد المجتمعات القديمة تحت عنوان الأسلاف الوثنيون للصقالبة والبلغاء وكان ذلك عام 309 ه بتكليف من الخليفة المقتدر بالله وهو في طريقه ضمن بعثة لتعليم ملك البلغار الذي دخل الإسلام حديثا حتى يقف أو يتعرف على مختلف أسرار الدين الحنيف .

الجاحظ : 

ومنهم كذلك (أبو عمرو الجاحظ ) صاحب كتب (الحيوان) ، ( التربيع والتدوير ) وغيرها ، صاحب الدعوة الجريئة لضرورة استخدام العقل وتحريره من كل الأفكار السلفية البالية ومن أقواله المأثورة لعمري إن العيون لتخطئ وإن الحواس لتكذب وما الحكم القاطع إلا للذهن ، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل ، لأن (العقل هو الحجة) .

ابن حوقل :

ومنهم (أبو القاسم بن حوقل) الذي قام عام 380 هجرية بدراسة وصفية اجتماعية وصف خلالها مختلف النظم الاجتماعية لدولة القرامطة ، التي نهضت بالبحرين آنذاك ، وبذلك يكون ابن حوقل من أوائل علماء المسلمين وغيرهم الذين اعتمدوا على المنهج الوصفي في دراساتهم وأبحاثهم.

ابن حزم :

ومنهم (ابن حزم) صاحب النظرة الإصلاحية الجرئية لإصلاح حال المجتمع الإسلامي من خلال دعوته إلى ضرورة فرض التكافل الاجتماعي على المجتمع المسلم . 

ومن آرائه أيضا دعوته لأن تتولى المرأة الحكم كما فرض عليها الجهاد واعتبره واجبا عليها كالرجل تماما .

كما أطلق ابن حزم صيحته المشهورة عندما طالب الباحثين بألا يركب أحدهم مطية سواه في البحث ، وذلك لأن التقليد حرام ما دام الباحث يملك أدوات الاجتهاد والعقل .

ابن سينا :

ومنهم الشيخ الرئيس (ابن سينا) ذلك الموسوعة العلمية العظيمة التي وسعت كل شيء ، فقد قرأن ابن سينا واستوعب ، لكنه أبدا لم يتأثر ولم يقلد ، بل أخذ ما أخذ عن سابقيه بعد اقتناع أن ما أخذه يوافق الشرع أولا والعقل ثانيا ، ويكفيه فخرا أنه القائل (حسبنا ما كتب من شروح لمذاهب القدماء وقد أن لنا أن نضع فلسفة خاصة بنا ) ، ويكفيه شرفا أن كتابه المسمى (القانون في الطب) ظل المرجع الوحيد للباحثين والدارسين في كل جامعات الأندلس وفي أكثر جامعات أوروبا بعد ذلك لسنوات طويلة.

ابن طفيل :

ومنهم أيضا (ابن طفيل) الفلكي والرياضي والشاعر والفيلسوف صاحب كتاب (حي ابن يقظان) الذي شكل على صغر حجمه علامة بارزة على طريق الفكر الإنساني وللقارئ أن يعلم أن قصة حي ابن يقظان كانت هي الخلفية المرجعية لعدد غير قليل من القصص والروايات الأدبية ليس في المشرق العربي فقط ولكن في العالم الغربي أيضا.

ابن الهيثم :

ومنهم (ابن الهيثم) الذي يعتبره مع الشيخ الرئيس ابن سينا والبيروني من أعظم العقليات العلمية العربية والإسلامية في مجال العلوم الطبيعية على الإطلاق والحسن ابن الهيثم ليس في حاجة منا لتوضيح فضله في مجال العلم الطبيعي وخاصة فيما يتعلق بالبصريات لكن الذي يهمنا الآن هو المنهج المتميز الذي استخدمه ابن الهيثم في البحث والذي يعتبر فيه رائدا غير مقلد ولا مسبوق.

القزويني :

ومنهم القزويني صاحب المؤلفات المتعددة التي منها (آثار البلاد وأخبار العباد) والذي يحدد في مقدمته الأولى منشأ القرى والمدن ، والتي اعتبر القزويني قيامها ضرورة اجتماعية ، كما تناول القزويني في المقدمة الثانية ، العديد من التأثيرات المختلفة للبيئة الطبيعية على السكان ، كما تحدث القزويني عن العديد من أخبار وأحوال الأمم الماضية.

المسعودي :

ومنهم أيضا المسعودي صاحب (مروج الذهب) بكل ما حواه من أخبار العرب الأقدمين وسيرهم ونظمهم وعاداتهم وتقاليدهم علاوة على ما قدمه من أخبار الأمم والشعوب التي جاورت العالم الإسلامي إبان القرن الرابع الهجري ، الموافق للقرن العاشر الميلادي ويرى كثير من العلماء أن المسعودي خلال كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر) هو الوحيد الذي تحدث عن الشعوب التي جاورت ديار الإسلام ، وأن حديثه كان خلاصة وافية للمعرفة العلمية في عصره ، ويرون أيضا أن المسعودي عالج أكثر الموضوعات التي تعرض لها معالجة البصيرة النيرة والملاحظة النفاذة.

ناصري خسرو :

ومنهم (ناصري خسرو) العالم المسلم الفارسي الأصل الذي قدم خلال رحلته المعروفة باسم (سفر نامة) العديد من المعلومات عن المجتمعات التي زارها وخصوصا في مجالات الاجتماع والاقتصاد ، ومعلوماته تلك كانت تتم عن شدة الملاحظة ودقة التعبير.

ابن بطوطة : 

ومنهم ابن بطوطة .. ذلك الرحالة الشهير الذي جاب أقطارا عديدة منها مصر والشام والعراق وفارس والجزيرة العربية والسودان والمغرب والأندلس فضلا عن بلاد الروم والهند والصين.

ويرى كثير من الجغرافيين أن ابن بطوطة لم يكن جغرافيا .. فهو لم يهتم بالأقطار إلا قليلا ، وحتى المدن إنما وصفعها باعتبار ما يقطنها من الناس ، ولذلك فهو يفيد في التاريخ والاجتماع أكثر مما يفيد في الجغرافيا .

على بن أبي طالب : 

ومنهم رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، ونحن لن نلجأ هنا لإبراز فكره الاجتماعي الصافي استنادا على تميزه نتيجة لقربه من سيدنا رسول الله (r) أو باعتباره رابع الخلفاء الراشدين فحسب ، وإنما سنرتكز على كتاب (نهج البلاغة) نجد سيدنا عليا كرم الله وجهه قد دعا إلى :

1- ضرورة أن يتضامن أفراد المجتمع فيما بينهم تضامنا عضويا ، وذلك من منطق أن الإنسان لا يحيا إلا في مجتمع ( يا أيها الناس إنه لا يستغنى الرجل وإن كان ذا مال عن عشريته ) .

2- والناس عند سيدنا على كرم الله وجهه واحد من ثلاثة : ( فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح ولكن لماذا هم كذلك همج ورعاع ؟

يقول سيدنا على كرم الله وجهه مبرزا طبيعة النفس البشرية ، أنهم من الغوغاء وستظل الرياح والأنواء تتقاذفهم ( ما لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ) 

3- أدرك علي بن أبي طالب كره الله وجهه ما للسنن الاجتماعية والأعراف والتقاليد والعادات من أهمية بالغة في حياة الجماعات والأمم فطالب بمراعاة الصالح منها والحفاظ عليها لأن في ذلك صلاح المجتمع ولا تنتقص سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت بها الرعية .

4- نادى على بن أبي طالب بالتخصيص – الخصخصة والتخصص – وضرورة أن تقسم الأعمال وتوزع على مؤديها كل حسب قدرته وجهده ( واجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به ) لأن تقسيم العمل لو تم فإنه أحرى ألا يتواكلوا في خدمتك .

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

42

متابعين

5

متابعهم

1

مقالات مشابة