القرآن وعلم النفس

القرآن وعلم النفس

0 المراجعات

القرآن وعلم النفس

مقدمة 

إن القرآن الكريم كتاب دين وهداية أنزله الله سبحانه وتعالى على النبي محمد (r) للناس كافة ، يخاطب فيه عقل الإنسان ووجدانه ، ويعلمه عقيدة التوحيد ، ويزكيه بالعبادات ، ويهديه إلى ما فيه خيره وصلاحه في حياته الفردية والاجتماعية ، ويرشده إلى الطريق الأمثل لتحقيق ذاته ، ونمو شخصيته ، وترقى نفسه في مدارج الكمال الإنساني حتى يستطيع أن يحقق لنفسه السعادة في الدنيا والآخرة .

وحث القرآن الكريم الإنسان أيضا على التفكير في نفسه ، وفي عجيب خلقه ، ودقة تكوينه ، وهو بذلك يدفع الناس إلى دراسة تكوينهم البدني ، وإلى البحث في علوم الطب والفسيولوجيا والتشريح ، وإلى دراسة النفس ومعرفة أسرارها ، وإن معرفة الإنسان لنفسه تؤدي إلى معرفة الله سبحانه وتعالى.

وقد تضمن القرآن الكريم كثيرا من الآيات التي تعرضت لطبيعة تكوين الإنسان ، ووصفت أحوال النفس المختلفة ، وبينت أسباب انحرافها ومرضها وطرق تهذيبها وتربيتها وعلاجها ، وذلك أمر طبيعي في كتاب أنزله الله تعالى لهداية الإنسان وتوجيهه وتربيته وتعليمه ، وكانت هذه الآيات الواردة في القرآن الكريم عن النفس بمثابة المعالم التي يسترشد بها الإنسان في فهم نفسه وخصالها المختلفة ، وفي توجيهه إلى الطريق السليم في تهذيبها وتربيتها ، ومن الممكن أن نسترشد بما ورد في القرآن الكريم من حقائق عن الإنسان ، وصفاته وأحواله النفسية في تكوين صورة صحيحة عن شخصية الإنسان ، وعن الدوافع الأساسية التي تحرك سلوكه ، وعن العوامل الرئيسية لتوافق شخصيته وتكاملها ، ولتحقيق صحته النفسية ، مما يكون من شأنه أن يمهد الطريق لقيام (علم للنفس) تتفق نتائجه وحقائقه مع الحقائق الصحيحة عن الإنسان التي نستمدها من كلام الله سبحانه وتعالى خالق الإنسان ، وهو الأعلم بطبيعته وأسرار تكوينه .

دوافع السلوك الفي القرآن

الدوافع هي القوى المتحركة التي تبعث النشاط في الكائن الحي وتبدئ السلوك وتوجهه نحو هدف أو أهداف معينة ، والدوافع تؤدي وظائف ضرورية وهامة للكائن الحي ، فهي التي تدفعه إلى القيام بإشباع حاجاته الأساسية الضرورية لحياته وبقائه ، كما تدفعه إلى القيام بكثير من الأفعال الأخرى الهامة والمفيدة له في توافقه .

ويصنف علماء النفس المحدثون الدوافع إلى قسمين رئيسيين هما :

الدوافع الفسيولوجية :

لقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى الذي منح نعمة الوجود لكل مخلوق أن يودع في مخلوقاته خصائصها وصفاتها الخاصة التي تؤهلها لأداء الوظائف التي خلقها الله تعالى لها.

ومن بين الخصائص الهامة التي أودعها الله تعالى في طبيعة تكوين الحيوان والإنسان الدوافع الفسيولوجية  والدوافع الفسيولوجية قسمان : أحدهما ضروري لبقاء الفرد ، والآخر ضروري لبقاء النوع .

فالإنسان - وكذلك الحيوان – مخلوق بطريقة معينة متقنة مقدرة تقديرا بحيث يكون على قدر معين من الاتزان ، فإذا اختل هذا الاتزان تنبعث الدوافع الفسيولوجية التي تدفع الإنسان – وكذلك الحيوان – إلى القيام بأنواع النشاط التوافقي اللازم لإعادة البدن إلى حالته السابقة من الاتزان .

أولا  : دوافع حفظ الذات :

ذكر الله سبحانه وتعالى في بعض آيات القرآن أهم الدوافع الفسيولوجية التي تقوم بحفظ الذات وبقاء الفرد مثل الجوع ، والعطش ، والتعب ، والحرارة والبرودة ، والألم ، والتنفس .

ومما يشير إلى أن دوافع الجوع والعطش والتعب من الدوافع التي لا يستطيع أن يتحملها الإنسان عادة مدة طويلة لما تسببه له من ألم ، وما تلحقه به من ضرر ، ما وعد الله تعالى به المؤمنون من ثواب لتحملهم الجوع والظمأ والتعب في سبيل الله قال الله تعالى : ) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) ((التوبة) 

وتشير هذه الآيات إلى أن الله سبحانه وتعالى جعل الليل ساترا بسواده ليستريح فيه الناس ويسكنوا ويناموا بعد عناء العمل وكثرة الحركة والنشاط أثناء النهار .

وجعل النهار مضيئا ليتمكنوا من السعي في الأرض طلبا للرزق وللقيام بمتطلبات معايشهم . وقال تعالى أيضا عن دافع التعب وطلب الراحة : 

قال الله تعالى : )وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)( .

فإذا كان النهار مستمرا لا نهاية له ، ولا يوجد هناك ليل يسكن فيه الإنسان ليرتاح من التعب وينام ،فهل يستطيع الإنسان أن يعيش حياة هادئة خالية من العناء والشقاء ، إن في ذلك دليلا على فضل الله تعالى ونعمته على الإنسان ، بأن جعل النهار والليل متعاقبين على الدوام ، وبأن أودع في الإنسان دافع التعب الذي يدفعه إلى النوم والراحة ليسترد نشاطه وحيويته .

والألم من الدوافع الفسيولوجية الفطرية ، وهو يدفع الإنسان إلى تجنب ما يؤذيه ويؤلمه .

ثانيا : دافع بقاء النوع : 

وكما اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يوجد في طبيعة تكوين الإنسان والحيوان دوافع فسيولوجية فطرية تدفعهما إلى أنواع السلوك الضرورية لحفظ الذات ، فقد اقتضت حكمته كذلك أن يوجد في طبيعة تكوينهما دافعين فسيولوجيين فطريين يدفعانهما إلى القيام بنوعين هامين من السلوك يتوقف عليهما بقاء النوع ، هذان الدافعان هما الدافع الجنسي ودافع الأمومة.

الدافع الجنسي : 

الدافع الجنسي يقوم بوظيفة هامة هي التناسل لبقاء النوع ، وعن طريق الدافع الجنسي تتكون الأسرة ، ومن الأسر تتكون المجتمعات والشعوب ، فتعمر الأرض وتتعارف الشعوب ، وتزدهر الحضارة ، وتتقدم العلوم والصناعات .

والدافع الجنسي أساس تكوين الأسرة حيث يسكن كل زوج إلى زوجته فيشعر بالراحة والأمن والطمأنينة ، وتنشأ بينهما عواطف المحبة والمودة والرحمة مما يؤدي إلى استمرار الحياة الزوجية في وفاق وتعاون مما يهيئ الجو السليم لتنشئة الأطفال ورعايتهم وتكوين شخصياتهم تكوينا سليما.

دافع الأمومة : 

وشاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يوجد أيضا في طبيعة تكوين الأم دافعا فطريا يهيؤها للقيام برسالتها الهامة في الإنجاب لبقاء النوع ، فهي تتحمل مشاق الحمل والولادة عن رضا ، وتقوم بإرضاع الطفل ورعايته والحنو عليه حتى ينمو ويصبح قادرا على العناية بنفسه ، وقد أشار القرآن إلى ما تتحمله الأم من عناء في الحمل والولادة .

الدوافع النفسية والروحية

الدوافع النفسي والروحية هي الدوافع التي ترتبط بحاجات الإنسان النفسية والروحية ، وليست لها علاقة مباشرة بحاجات الإنسان الفسيولوجية ، ويضم هذا القسم من الدوافع نوعين رئيسيين هما :

1- الدوافع النفسية ، وهي ما يطلق عليه علماء النفس المحدثون اسم الدوافع النفسية – الاجتماعية – لأنها تشبع حاجات نفسية للفرد من جهة ، ولأنها تظهر أثناء تنشئة الفرد الاجتماعية ، ونتيجة لتفاعله الاجتماعي مع غيره من الناس ، من جهة أخرى ويذهب معظم علماء النفس المحدثين إلى أن الدوافع النفسية هي في الأغلب مكتسبة على أساس دوافعنا الفسيولوجية .

2- الدوافع الروحية ، وهي دوافع ترتبط بالناحية الروحية في الإنسان ، مثل دافع التدين والتمسك والتقوى ، وحب الخير والحق والعدل ، وكره الشر والباطل والظلم ، وقد أغفل معظم علماء النفس المحدثين في دراستهم للدافعية هذا النوع من الدوافع الروحية ، بالرغم من أنها أهم ما يميز به الإنسان عن الحيوان .

دافع التملك : 

دافع التملك من الدوافع النفسية التي يتعلمها الإنسان ، في الأغلب ، أثناء تنشئته الاجتماعية ، فالإنسان يتعلم من الثقافة التي ينشأ فيها ، ومن خبراته الشخصية حبه لامتلاك المال والعقارات والأراضي والممتلكات المختلفة التي تشعره بالأمن من الفقر ، وتمده بالنفوذ والجاه ، والقوة في المجتمع ، وقد أشار القرآن في كثير من المواضع إلى دافع التملك .

دافع العدوان :

يظهر دافع العدوان في سلوك الإنسان تجاه الآخرين بهدف إلحاق الأذى بهم سواء كان ذلك في صورة عدوان بدني ، أو في صورة عدوان لفظي ، وقد أشار القرآن إلى دافع العدوان أثناء ذكره لقصة آدم وحواء وإغواء الشيطان لهما لإخراجهما من الجنة .

دافع التنافس :

والتنافس من الدوافع النفسية التي يتعلمها الإنسان من الثقافة التي ينشأ فيها وتقوم التربية التي يتلقاها الفرد بتوجيهه إلى النواحي التي يستحسن فيها التنافس من أجل تقدمه ورقيه وفقا للقيم التي يتمسك بها المجتمع الذي ينشأ فيه الفرد فقد يتعلم الفرد من الثقافة التي ينشأ فيها التنافس الاقتصادي ، أو التنافس السياسي ، أو التنافس العلمي ، أو غير ذلك من أنواع التنافس الشائعة بين الناس في مختلف الثقافات الإنسانية ، وقد حث القرآن الناس على التنافس في تقوى الله ، وعمل الخيرات ، والتمسك بالقيم الإنسانية العليا ، واتباع المنهج الرباعي في الحياة سواء في علاقتهم بالله سبحانه وتعالى ، أو في علاقتهم الأسرية ، أو في علاقاتهم مع المجتمع حتى يحظوا بمغفرة الله ورضوانه ، وينعموا بدخول الجنة .

دافع التدين :

إن دافع التدين دافع نفسي له أساس فطري في طبيعة تكوين الإنسان فالإنسان يشعر في أعماق نفسه بدافع يدفعه إلى البحث والتفكير لمعرفة خالقه وخالق الكون ، وإلى عبادته والتوسل إليه والالتجاء إليه طالبا منه العون كلما اشتدت به مصائب الحياة وكروبها ، وهو يجد في حمايته ورعايته الأمن والطمأنينة .

ومن العوامل التي تساعد على إيقاظ وبعث دافع التدين في الإنسان ما يحيط به من بعض الحالات من أخطار تهدد حياته ، وتسد أمامه جميع سبل النجاة ، فلا يجد منها مهربا إلا الالتجاء إلى الله فيتجه إليه سبحانه وتعالى بدافع فطري .

الدوافع اللاشعورية

قد يشعر الإنسان أحيانا ببعض الرغبات أو الدوافع غير المقبولة أو المثيرة لقلقه فيعمل على إبعادها من دائرة وعيه أو شعوره مما يؤدي في النهاية إلى كبتها في اللاشعور ، غير أنه كثيرا ما يحدث أن يقوم الإنسان بالتعبير عن هذه الرغبات والدوافع بطريقة لا شعورية في صورة فلتات اللسان وأخطاء الكلام.

وقد أشار القرآن الكريم إلى التعبير اللاشعوري عن طريق فلتات اللسان عما يجيش في النفس من دوافع يحاول الإنسان كتمانها وإخفاءها وذلك في قوله تعالى : )أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) ( (محمد) 

الصراع بين الدوافع

إذا تعارضت بعض دوافع الإنسان بأن يجذبه ، مثلا ، دافع ما إلى اتجاه معين ، ويجذبه دافع آخر إلى اتجاه مضاد ، أحس الإنسان بحالة من الحيرة والتردد والعجز عن اتخاذ قرار في أي اتجاه يسير ، وتعرف هذه الحالة بالصراع النفسي ، وقد صور القرآن حالة الصراع النفسي التي يعانيها بعض الأفراد الذين يقفون من الإيمان موقف تردد وريبة ، فلا هم يتجهون اتجاها تاما إلى ناحية الإيمان ، ولا هم يتجهون اتجاها تاما إلى ناحية الكفر ، ولكنهم يقفون بين الإيمان والكفر موقف المتردد العاجز عن اتخاذ قرار نهائي في هذا الأمر .

قال الله تعالى : )قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) ( (الأنعام) 

السيطرة على الدوافع

يتبين لنا مما سبق أن مشيئة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت وجود الدوافع الفسيولوجية في فطرة كل من الحيوان والإنسان لتحقيق الأهداف التي أرادها الله تعالى منها وهي حفظ الذات وبقاء النوع . ومن الطبيعي أن يكون إشباع هذه الدوافع أمر ضروري تقتضيه الفطرة ، وتستلزمه طبيعة تكوين كل من الحيوان والإنسان ، إذ يتوقف على إشباعها استمرار الحياة وبقاء النوع . ولذلك جاءت أحكام القرآن وأوامره في شأن هذه الدوافع متفقة مع فطرة الإنسان ، فهي تعترف بها وتقرها وتدعو إلى إشباعها في الحدود التي بينها الشرع . وليس في القرآن ولا في السنة ما يشير إلى استقذار هذه الدوافع أو إنكارها أ ويدعو إلى كبتها ، وإنما يدعو القرآن ، وكذلك تدعو السنة ، إلى السيطرة على الدوافع والتحكم فيها ، وإشباعها فقط في الحدود التي يسمح بها الشرع ، دون إسراف أو تجاوز لهذه الحدود ، وذلك لمصلحة الفرد والجماعة .

والقرآن لا يدعو إلى كبت دوافعنا الفطرية بالمعنى الذي بيناه سابقا ، ولكنه يدعو إلى تنظيم إشباعها ، والتحكم فيها ، وتوجيهها توجيها سليما تراعى فيه مصلحة الفرد والجماعة ، بحيث يصبح الفرد هو المسيطر على دوافعه ، والموجه لها ، ولا تكون دوافعه هي المسيطرة عليه الموجهة له . وتبين رأي القرآن بوضوح في اعترافه بمشروعية إشباع الدوافع الفسيولوجية من الآيات التالية : 

)يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)(

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) ( (البقرة)

يتضح من هذه الآيات التي ذكرناها أن القرآن لا يدعو الإنسان إلى إنكار دوافعه الفطرية وكبتها ، وهو بذلك يجنبه الوقوع في الصراع النفسي الذي ينشأ من إنكار الإنسان لدافعه الجنسي وقيامه بكبته مما يؤدي إلى نشوء أعراض اضطرابات السلوك ، ولكن القرآن مع ذلك لا يطلق العنان للإنسان لإشباع دوافعه الفطرية بلا حدود ، ولكنه يدعوه إلى تنظيم إشباعها ، والسيطرة على زمامها.

وقد حرص القرآن على أن يعيش الشباب المسلم في مجتمع يساعد على السيطرة على دافعه الجنسي ، ولا يعرضهم إلى ما من شأنه أن يثير هذا الدافع ويهيجه ، ولذلك طالب القرآن المسلمين بغض النظر ، كما طالب النساء بإخفاء زينتهن ومحاسنهن الخلقية التي قد تفتن الرجال كالشعر والعنق والصدر ، وحث القرآن المؤمنين على غض أبصارهم لوقايتهم من رؤية ما يثير فيهم الدافع الجنسي مما قد يؤدي بهم إلى الانزلاق في تيار الشهوات التي تدفع بهم إلى هاوية المعصية .

)قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) ( (النور)

أما فيما يتعلق بالتنظيم الثاني للدوافع الفسيولوجية وهو عدم الإسراف في إشباعها ، فإننا نعلم من خبرتنا الشخصية ومن الدراسات الطبية أن الإسراف في الأكل مضر بصحة الإنسان إذ يصيبه بالتخمة وببعض أمراض الجهاز الهضمي ، ويسبب له السمنة التي لها أضرار كثيرة على صحة الإنسان ، وكذلك فإن الإسراف في شرب الماء ، والإسراف في الراحة والكسل والنوم أمر يضر بالصحة ، ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن الإسراف في الأكل والشرب .

) يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)( (الأعراف) 

ولا يعني القرآن بتوجيه الإنسان إلى السيطرة على دوافعه الفسيولوجية فقط ، وإنما هو يعني كذلك بتوجيهه إلى السيطرة على دوافعه النفسية أيضا . ففي كثير من المواضع يحث القرآن على السيطرة على دافع العدوان ودافع التملك ، فضبط النفس ، والتحكم في أهوائها وشهواتها سواء كانت بدنية أو نفسية من الخصال التي يجب أن يتحلى بها المؤمن السوي الشخصية.

ففيما يتعلق بدافع العدوان فإن القرآن ينهي الناس عن ظلم الآخرين والعدوان عليهم سواء بدنيا أو لفظيا ، ويأمرهم بمعاملة الناس بالحسنى واللين والمعروف .

)وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) ( (الأحزاب)

انحراف الدوافع

إذا فشل الإنسان في ضبط دوافعه والتحكم فيها ، فأسرف في إشباعها ، وانغمس في لذاتها ، وجعل الحصول على لذة الإشباع هدفا في ذاته ، انحرفت الدوافع عن أهدافها الحقيقية ، فلم تعد بعد وسيلة لاستمرار حياة الفرد وبقاء النوع ، وإنما أصبح غاية في ذاتها ، ولم يعد الإنسان هو المسيطر عليها والمتحكم فيها ، وإنما أصبحت هي المسيطرة عليه والمتحكمة فيه. وانحراف الدوافع وسيطرتها على الإنسان قد يحدث بالنسبة لكل من الدوافع الفسيولوجية والنفسية على السواء . ومن أهم دوافعنا الفسيولوجية المعرضة للانحراف الدافع الجنسي .

وقد ذكر القرآن الكريم نوعا شائعا من الانحراف الجنسي وهو الجنسية المثلية التي مارسها قوم لوط . ويتضح مما قاله القرآن عن هذا الانحراف الجنسي أنه ظهر لأول مرة في تاريخ البشرية بين قوم لوط.

) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) ( (الأعراف) 

الانفعالات في القرآن

اقتضت حكمة الله تعالى أن يزود الإنسان والحيوان كذلك بانفعالات تعنيها أيضا على الحياة والبقاء ، فانفعال الخوف ، مثلا ، يدفعنا إلى تجنب الأخطار التي تهدد حياتنا ، وانفعال الغضب يدفعنا إلى الدفاع عن النفس ، وإلى الصراع من أجل البقاء ، وانفعال الحب هو أساس تآلف الجنسين وانجذاب كل منهما إلى الآخر من أجل بقاء النوع.

وجاء القرآن الكريم وصف دقيق لكثير من الانفعالات التي يشعر بها الإنسان مثل الخوف ، والغضب والحب والفرح ، والكره ، والغيرة ، والحسد ، والندم ، والحياء ، والخزي ، وسوف نتناول ما جاء في القرآن عن هذه الانفعالات فيما يلي :

الخوف

انفعال الخوف من الانفعالات الهامة في حياة الإنسان ، لأنه ، كما أشرنا من قبل ، يعينه على اتقاء الأخطار التي تهدده مما يساعده على الحياة والبقاء .

وليست فائدة الخوف مقصورة فقط على وقاية الإنسان من الأخطار التي تهدده في حياته الدنيوية ، وإنما من أهم فوائده أيضا أنه يدفع المؤمن إلى اتقاء عذاب الله في الحياة الآخرة . فالخوف من عقاب الله يدفع المؤمن إلى تجنب الوقوع في المعاصي ، وإلى التمسك بالتقوى والانتظام في عبادة الله وعمل كل ما يرضيه .

والخوف من الله خوف هام في حياة المؤمن ، فهو يدفعه دائما إلى تقوى الله واسترضائه ، وإتباع منهجه وترج ما نهى عنه ، وفعل ما أمر به ، ويعتبر لخوف من الله ركنا من الإيمان به ، وأساسا هاما في تكوين شخصية المؤمن .

)إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) ( (البينة)

الغضب

الغضب انفعال هام يؤدي وظيفة هامة للإنسان حيث أنه يساعده على حفظ ذاته ، فحينما يغضب الإنسان تزداد طاقته على القيام بالمجهود العضلي العنيف ، مما يمكنه من الدفاع عن النفس أو التغلب على العقبات التي تعوقه عن تحقيق أهدافه الهامة ، وقد نوه القرآن باستخدام الشدة مع الكفار الذين يقاومون انتشار الإسلام ، وهي شدة نابعة من الغضب في سبيل الله وفي سبيل نشر دعوته ، فقال في وصف الرسول (r) ومن معه من المؤمنين : 

) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ..( (الفتح : 29)

ويميل الإنسان إلى أن يستجيب لانفعال الغضب بتوجيه العدوان إلى العقبات التي تعوق إشباع دوافعه أو تحقيق أهدافه ، سواء كانت هذه العقبات أشخاصا ، أو عوائق مادية ، أو قيودا اجتماعية ، غير أن كثيرا ما يحدث أن ينقل الغضب أو يحول إلى أشخاص آخرين لم يكونوا هم في الحقيقة العقبة التي حالت دون تحقيق أهداف الإنسان ، أو لم يكونوا هم السبب الحقيقي في إثارة انفعال الغضب .

فقد يغضب الطفل ، مثلا ، من أبيه فينقل غضبه إلى أخيه الأصغر فيضربه لأتفه الأسباب . وتعرف هذه العملية بالنقل . وقد ورد في القرآن مثال لنقل الغضب فيما قام به موسى عليه السلام حينما غضب من قومه لعبادتهم العجل ، ولكنه وجه غضبه لأول وهلة إلى أخيه هارون عليه السلام ، فأمسك برأسه ولحيته يجره إليه غاضبا .

الحب 

يلعب الحب دورا هاما في حياة الإنسان . فهو أساس الحياة الزوجية ، وتكوين الأسرة ورعاية الأبناء ، وهو أساس التآلف بين الناس وتكوين العلاقات الإنسانية الحميمة ، وهو الرباط الوثيق الذي يربط الإنسان بربه ويجعله يخلص في عبادته ، وفي إتباع منهجه ، والتمسك بشريعته ، وهو العلاقة الروحية العميقة الجذور التي تربط المسلمين بالرسول (r) والتي تدفعهم إلى التمسك بسنته ، وإتباع تعاليمه وأوامره ، واتخاذه مثلا أعلى يقتدون به في جميع أفعاله .

يرتبط حب الذات ارتباطا وثيقا بدوافع حفظ الذات . فالإنسان يحب أن يحيى وينمي إمكاناته ويحقق ذاته ، ويحب كل ما يجلب له الخير والأمن والسعادة ، وهو يكره كل ما يعوقه عن الحياة والنمو وتحقيق الذات ، وكل ما يجلب له الألم والأذى والضرر . وقد عبر القرآن عن هذا الحب الفطري في الإنسان لذاته ، وميله إلى طلب كل ما يفيدها وينفعها ، وتجنب ما يضرها ويسوؤها ،و ذلك حينما يذكر على لسان النبي (r) أنه لو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير لنفسه ، ولدفع عنها السوء والأذى .

)وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ( (الأعراف : 188) 

ومن مظاهر حب الإنسان لذاته حبه الشديد للمال الذي يستطيع أن يحقق به جميع رغباته ، وأن يهيئ لنفسه جميع أسباب الراحة والرفاهية في الحياة وقد ذكر القرآن حب الإنسان الشديد للمال.

) وإنه لحب الخير لشديد ( .

ومن مظاهر حب الإنسان لذاته أيضا أنه دائم الدعاء للخير لنفسه من مال وصحة وغير ذلك من خيرات الحياة ونعمها ، وإذا أصابه سوء أو بلاء أو فقر تملكه اليأس الشديد وظن أنه لن يتهيأ له بعد ذلك خير.

حب الناس :

عندما ينمو الطفل ويأخذ في التفاعل مع غيره من الأطفال والكبار الذين من حوله ، يأخذ جزء من حبه يتعلق بهم . ويأخذ هذا الحب يزداد بالتدريج ، كلما ازدادت علاقات الطفل بالناس وتنوعت . ويتعلم الطفل بالتجربة أنه لكي يستطيع أن يعيش في تآلف وانسجام مع الناس الآخرين ، يجب عليه أن يحد من حبه لذاته وأنانيته ، وأن يعمل على موازنته بحبه للناس الآخرين ومودته لهم ، والتعاون معهم ، وتقديم يد المعونة إليهم . ويساعد التدين على عدم الإفراط في حب الإنسان لذاته ، وعلى حب الناس الآخرين وحسن معاملتهم ، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحقيقية حينما أشار إلى حب الإنسان لنفسه الذي يظهر في هلعه وجزعه إذا مسه الشر ، وحرصه على ما يناله من الخير وبخله به ومنعه عن الناس ، ثم أثنى سبحانه وتعالى بعد ذلك مباشرة على من يقاوم الإسراف في حبه لذاته ، ويتخلص من مظاهر الهلع والجزع إذا مسه الشر ، ومن البخل إذا ناله خير ، وذلك عن طريق التمسك بالإيمان ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والتصدق على الفقراء والمساكين والمحرومين ، والابتعاد عما يبغض الله ، فإن من شأن هذا الإيمان أن يوازن بين حب الإنسان لنفسه وحبه للناس بما يحقق مصلحة الفرد والجماعة .

الحب الجنسي : 

يرتبط الحب بالدافع الجنسي ارتباطا وثيقا ، فهو الذي يعمل على استمرار التآلف والانسجام والتعاون بين الزوجين ، وهو أمر ضروري لاستمرار الحياة الأسرية .

الحب الأبوي :

تكلمنا في الفصل الأول عن دافع الأمومة كأحد الدوافع الفسيولوجية ، إذ يوجد أساس فسيولوجي لدافع الأمومة هو التغيرات الفسيولوجية والبدنية .

ولما كان الأب لا يرتبط بأبنائه بمثل هذه الارتباطات الفسيولوجية التي تربط الأم بأبنائها ، فإن علماء النفس المحدثين لا يعتبرون دافع الأبوة دافعا فسيولوجيا كدافع الأمومة ، ولكنهم يعتبرونه دافعا نفسيا . ويظهر دافع الأبوة واضحا في حب الآباء لآبنائهم ، فهم مصدر متعة وسرور لهم ، ومصدر قوة وجاه ، وعامل هام في استمرار دور الأب في الحياة ، وفي بقاء ذكراه بعد موته . يتضح ذلك من دعاء زكريا عليه السلام ربه أن يهبه غلاما يرثه ويرث آل يعقوب .

حب الله :

إن ذروة الحب عند الإنسان ، وأكثره سموا وصفاء وروحانية هو حبه لله سبحانه وتعالى ، وشوقه الشديد إلى التقرب منه ، لا في صلواته وتسبيحاته ودعواته فقط ، ولكن في كل عمل يقوم به ، وفي كل سلوك يصدر منه ، إذ يكون توجهه في كل أعماله وتصرفاته إلى الله سبحانه وتعالى راجيا منه تعالى القبول والرضوان . إن حب الله تعالى هو غاية كل مؤمن ، وهو القوة الدافعة لطاعة الله ، وطاعة رسوله (r).

إن حب المؤمن لله تعالى وعبادته له ، إنما هما مطلبه الأسمى وغايته القصوى التي يتحقق بهما له أعظم السعادة والسرور والبهجة والأمن والطمأنينة ، سواء في الدنيا أو في الآخرة. يقول ابن تيمية في هذا المعنى : [ فكلما ازداد القلب حبا له (لله) ازداد له عبودية ، وكلما ازداد له عبودية ، ازداد له حبا وفضله عما سواه ] ، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين : من جهة العبادة ، وهي العلة الغائية ، ومن جهة الاستعانة والتوكل ، وهي العلة الفاعلة ، فالقلب لا يصلح ، ولا يفلح ، ولا ينعم  ،ولا يسر ، ولا يلتذ ، ولا يطيب ، ولا يسكن ، ولا يطمئن ، إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه ، ولو حصل له كل ما يلتذ به من مخلوقات ، لم يطمئن ، ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه ، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه ، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة .

والمؤمن الصادق الإيمان يحمل كل الحب للرسول (r) الذي تحمل مشاق الدعوة ، وجاهد جهاد الأبطال حتى نشر الإسلام في ربوع العالم ، ونقل الإنسانية من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية . وقد أوصانا القرآن بحب الرسول (r) وقرن حبه بحب الله في الآية الرابعة والعشرين من سورة التوبة التي ذكرناها سابقا أثناء كلامنا عن حب الله .

الفرح

يشعر الإنسان بانفعال الفرح أو السرور إذا نال ما تمناه ، وحصل ما يحب أن يحصل عليه من مال ، أو نفوذ أو نجاح أو علم أو إيمان وتقوى .

فالفرح أمر نسبي يتوقف على أهداف الإنسان في الحياة ، فمن كان هدفه في الحياة جمع المال ، والحصول على القوة والنفوذ وغير ذلك من متاع الحياة الدنيا ، كان نجاحه في تحقيق هذه الأهداف باعثا على فرحه وسروره . ومن كان هدفه في حياته التمسك بالإيمان والتقوى والعمل الصالح لكي يحصل على السعادة في الحياة الآخرة ، كان ذلك مصدر أمنه وطمأنينته وسروره ، وقد ذكر القرآن هذين النوعين من الفرح ، فذكر فرح الكفار بمتاح الحياة الدنيا .

أما من كان مصدر فرحة وسروره هو تمسكه بالإيمان والتقوى والعمل الصالح وإتباع منهج الله في حياته فهو يشعر في الواقع بالسعادة الحقيقية المستقرة الدائمة . يصدق عليه قول الله تعالى : ) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) ( (النحل) 

الكره

والكره انفعال مضاد لانفعال الحب ، هو عبارة عن شعور بعدم الاستحسان ، وعدم التقبل ، أو الشعور بالنفور والاشمئزاز ، وبرغبة في الابتعاد عن الموضوعات التي تثير هذا الشعور ، سواء كانت أشخاصا أو أشياء أو أفعالا .

 وقد يكره الإنسان شخصا آخر أو بعض الأشخاص الآخرين لاختلافه معهم في الرأي ، أو بسبب الغيرة منهم لتفوقهم عليه في أمر من الأمور ، أو لما يسببونه له من إحباط ، أو لغير ذلك من الأسباب التي تبعث الكراهية في النفس . وقد كان الكفار والمنافقون يكرهون المؤمنين ويحقدون عليهم ، إذا أصابهم شر فرحوا به ، وإذا نالوا خيرا ساءهم ذلك .

الغيرة

الغيرة انفعال مكدر بغيض يشعر به الإنسان عادة إذا شعر أن الشخص المحبوب يوجه انتباهه أو حبه إلى شخص آخر غيره ، ومن أنواع الغيرة الشائعة ما يحدث بين الإخوة إذا ما شعر أحدهم أن والديه أو أحدهما يحب أحد أخوته أكثر منه . وقد وصف القرآن الغيرة بين الإخوة فيما رواه عن غيره إخوة يسوف عليه السلام منه بسبب حب أبيهم يعقوب عليه السلام له ولأخيه الأصغر وتفضيله لهما عليهم .

الحسد

الحسد نوعان أحدهما مذموم شرعا ، وهو كراهة رؤية النعمة على الغير مطلقا ، وتمنى زوالها عنه ، والنوع الثاني وهو ما يعرف بالغبطة ، وفيه يتمنى الإنسان أن يكون لديه مثل النعمة التي لدي الغير دون تمني زوالها عنه ، وهذا النوع الثاني من الحسد أو الغبطة ليس مذموما مطلقا ، وبخاصة إذا كانت النعمة التي يتمنى الإنسان الحصول عليها محمودة شرعا ، كأن يتمنى مثلا ، أن يكون حافظا للقرآن مثل غيره من حفاظ القرآن ، أو يكون لديه مال كثير لينفقه في سبيل الله مثل شخص آخر ثري ينفق ماله في سبيل الله ، وفي هذا المعنى قال الرسول (r) : [ لا حسد في اثنتين : رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آناه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ] .

الخزن

الحزن انفعال مضاد للفرح والسرور ، وهو يحدث إذا فقد الإنسان شخصا عزيزا ، أو شيئا ذا قيمة كبيرة ، أو إذا حلت به كارثة ما ، أو فشل في تحقيق أمر هام ، ويشعر الآباء والأمهات عادة بالحزن إذا ما غاب أبناؤهم عنهم ، أو إذا ما لحق بهم أذى أو أصابهم مكروه ، وقد أشار القرآن إلى حزن أم موسى عليه السلام حينما ابتعد عنها ابنها بعد أن وضعته في صندوق وألقت به في النهر وقذف به الموج بعيدا عنها .

ووصف القرآن أيضا حالة الحزن التي أصابت المؤمنين الفقراء الذين جاءوا إلى الرسول (r) يطلبون الخروج معه للجهاد ، ولكن الرسول (r) قال لهم إنه لا يجد ما يحملهم عليه فتولوا عنه يبكون من الحزن .

الندم

الندم حالة انفعالية تنشأ عن شهور الإنسان بالذنب ، وأسفه على ارتكابه ، ولومه لنفسه على ما فعل ، وتمنيه لو أنه لم يفعل ذلك .

ولوم الإنسان لنفسه ، وندمه على ما فعل من العوامل الهامة في تقويم شخصية الإنسان .

وأول ندم يشعر به الإنسان ما حدث لأبوينا آدم وحواء عليهما السلام وهما في الجنة وقبل هبوطهما إلى الأرض ، فقد عصيا أمر ربهما وأكلا من الشجرة التي نهاهما عن الاقتراب منها ، وظهرت سوءاتهما ، فشعرا بالندم وتوجها إلى الله تعالى يطلبان منه المغفرة والتوبة .

انفعالات أخرى

وأشار القرآن الكريم أيضا إلى بعض الانفعالات الأخرى غير التي ذكرناها مثل : الحياء ، والخزي ، والزهور أو الكبر .

الحياء انفعال مركب فيه عناصر من الخجل والخوف ، وهو يعتري الإنسان إذا خاف أن يرى الناس فيه ما يمكن أن يعاب أو يذم . وهو من السمات الإنسانية الحميدة ، لأنه يدفع الإنسان إلى تجنب الأفعال القبيحة المعيبة . وقد أشار القرآن إلى انفعال الحياء أثناء ذكره لقصة هرب موسى عليه السلام من فرعون ، والتجائه إلى أرض مدين ، وسقايته لفتاتين كانتا واقفين بجانب البئر ، وعادت إحدى هاتين الفتاتين إليه بعد ذلك تمشي إليه في استحياء ودعته إلى مقابلة أبيها ليأجر على سقايته لهما .

) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ( (القصص : 25) 

التغيرات البدنية المصاحبة للانفعال 

إذا انفعل الإنسان حدثت تغيرات فسيولوجية كثيرة في بدنه ، كما حدثت تغيرات في هيئة بدنه الخارجية ، وفي ملامح وجهه . ومن بين هذه التغيرات الفسيولوجية التي تحدث أثناء الانفعال شدة دقات القلب ، وتقلص الأوعية الدموية في الأمعاء والأحشاء ، واتساع الأوعية الدموية على سطح البدن والأطراف مما يؤدي إلى تدفق كميات كبيرة من الدم إلى القلب ، وامتلاء القلب بالدم بسبب ازديادا في حجمه مما يجعله يقترب من القصبة الهوائية ، حيث يوجد القلب من الوجهة التشريحية تحت تشعب القصبة الهوائية بما يقرب من سنتيمتر ونصف . ومن جهة أخرى فإن الإنسان المنفعل يشعر أن قلبه . من شدة خفقانه ، يصل إلى حنجرته ، وقد وصف القرآن ما يحدث في القلب أثناء انفعال الخوف من خفقان شديد يؤدي إلى كثرة تدفق الدم إليه مما يزيد من حجمه ويجعله يقترب من القصبة الهوائية كما يؤدي إلى شعوره باقتراب قلبه من حنجرته .

) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) ( (الأحزاب) 

ومن التغيرات البدنية التي تصاحب الانفعال أيضا تغير ملامح الوجه ، بحيث يستطيع الإنسان أن يلاحظ حالة الانفعال من التغيرات التي تحدث في ملامح وجه المنفعل . وقد أشار القرآن إلى هذه الظاهرة في كثير من الآيات . ومن أمثلة ذلك :

) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا ( (الحج : 72) 

ومن التغيرات البدنية التي تحدث أثناء انفعال الخوف أيضا انتصاب شعر الرأس وجميع الشعر على سطح الجلد ، يظهر ذلك واضحا عند بعض الحيوانات كالقطط التي يلاحظ فيها انتصاب شعرها في حالة انفعال الخوف . ويحدث مثل ذلك أيضا عند الإنسان ولكن في صورة أقل وضوحا مما نراه لدي الحيوانات . وانتصاب الشعر الموجود على سطح جلدنا أثناء انفعال الخوف هو ما يجعلنا نحس بنوع من القشعريرة أثناء انفعال الخوف . وقد ذكر القرآن هذا الشعور بالقشعريرة المصاحب لانفعال الخوف . قال الله تعالى : ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) ( (الزمر) 

السيطرة على الانفعالات 

السيطرة على الخوف من الموت :

حرص القرآن الكريم على أن يوجه الناس إلى عدم الخوف من الأمور التي من شأنها أن تثير الخوف في الناس عادة ، كالموت ، والفقر ، ففيما يتعلق بالخوف من الموت فقد بين لنا القرآن أن الحياة الدنيا حياة فانية ، وأن نعميها زائل ، وأن الحياة الآخرة هي الحياة الباقية ، وأن نعيمها خالد لا يزول ، وأن الموت ليس إلى مرحلة تنقلنا من هذه الحياة الفانية إلى الحياة الباقية الخالدة . ولذلك فإن المؤمن الصادق الإيمان لا يخاف الموت ، لأنه يعلم أن الموت سينقله إلى نعيم الحياة الخالدة الباقية التي وعد الله بها عباده المتقين .

السيطرة على الخوف من الفقر :

وأوصانا القرآن أيضا بعدم الخوف من الفقر ، فالرزق بيد الله سبحانه وتعالى ، وهو الرازق ذو القوة المتين . ) إن الله هو الرازق ذو القوة المتين ( .

السيطرة على الغضب :

وأوصانا القرآن أيضا بالتحكم في انفعال الغضب . فحينما يغضب الإنسان يتعطل تفكيره ، ويفقد قدرته على إصدار الأحكام الصحيحة . ويحدث أيضا أثناء الغضب – وكذلك أثناء الخوف والانفعالات الأخرى بعامة كما أشرنا إلى ذلك من قبل – أن تفرز الغدتان الكظريتان هرمون الأدرينالين الذي يؤثر على الكبد ويجعله يفرز كمية أكبر من السكر مما يؤدي إلى زيادة الطاقة في الجسم ويجعله أقدر على بذل المجهود العضلي اللازم للدفاع عن النفس . وإن زيادة الطاقة في الجسم أثناء انفعال الغضب يجعل الإنسان أكثر استعدادا وتهيؤا للاعتداء البدني على من يثير غضبه . ولذلك كان التحكم في انفعال الغضب مفيدا في عدة وجود فأولا ، يحتفظ الإنسان بقدرته على التفكير السليم ، وإصدار الأحكام الصحيحة ، فلا يتورط في أعمال أو أقوال يندم عليها فيما بعد ، ثانيا : يحتفظ الإنسان باتزانه البدني ، فلا ينتابه التوتر البدني الناشيء عن زيادة الطاقة التي تسببها زيادة إفراز الكبد للسكر ، وبذلك تجنب الإنسان الاندفاع في القيام بأعمال عنيفة كالاعتداء البدني على الخصم الذي كثيرا ما يحدث أثناء انفعال الغضب ، ثالثا : إن التحكم في انفعال الغضب وعدم الاعتداء على الغير ، بدنيا أو لفظيا ، والاستمرار في معاملتهم بالحسنى وفي هدوء من شانه أن يبعث الهدوء في نفس الخصم ، ويدفعه إلى مراجعة نفسه ، ولا شك أن ذلك يؤدي إلى كسب صداقة الناس ومحبتهم ، ويساعد على حسن العلاقات الإنسانية بوجه عام.

) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) ( (فصلت) 

ورابعا : إن التحكم في انفعال الغضب مفيد أيضا من الناحية الصحية لأنه يجنب الإنسان كثيرا من الأمراض البدنية التي تحدث عادة نتيجة للانفعالات الشديدة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك .

السيطرة على الحب :

وأوصانا القرآن أيضا بالتحكم في حبنا لأهلنا من آباء وأزواج وأولاد ، وفي حبنا لأصدقائنا وعشيرتنا ووطننا وأموالنا وممتلكاتنا حتى لا ينسينا كل ذلك حبنا لله ، ويلهينا عن طاعته والجهاد في سبيله : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) (

السيطرة على انفعالات أخرى :

وأوصانا القرآن أيضا بعدم الزهو والكبرياء ، وقد ذكرنا سابقا بعض الآيات التي نهانا القرآن فيها عن الزهو والكبرياء والتعالي على الناس ، وذلك أثناء كلامنا عن انفعال الزهو.

وأوصانا القرآن أيضا بالسيطرة على كل من انفعال الحزن والفرح . فلا يجب أن نسرف في الحزن على ما يصيبنا من نوائب الدهر وكوارثه ، سواء في النفس أو الأبناء أو الأموال والممتلكات . كما لا يجب أن نسرف في الفرح على ما يأتينا من خير ، أو نناله من نجاح أو تفوق أو شهرة أو جاه ، ولا يجب أن يدفعنا ذلك إلى الزهو والاستكبار والتفاخر ، فإن كل ما يلحق بنا من أذى أو مصيبة ، أو نناله من خير فهو مكتوب في اللوح المخطوط ، وثابت في علم الله من قبل أن يحدث لنا ، وما يجدي حزننا في تغيير ما حدث ، أو في تغيير نتائجه ، كما لا يجدي فرحنا وزهونا في الاستزادة من الخير ، أو في الاحتفاظ به وعدم زواله ، إذ أن كل شيء من ذلك إنما هو في علم الله تعالى وحده ، ومرهون بمشيئته وحده .

الإدراك الحسي في القرآن 

لقد أرادت مشيئة الله سبحانه وتعالى أن يزود الإنسان والحيوان بكل الإمكانات والوظائف الضرورية للحياة والبقاء ، فزودهما ، بالإضافة إلى الدوافع والانفعالات ، بأجهزة يدركان بها العالم الخارجي ، وما يدور حولهما من أحداث ، كما يدركان بها عالمهما الداخلي وما يحدث فيه من تغيرات ، والإدراك الحسي وظيفة هامة في الحياة ، فبه يدرك الكائن الحي ما يؤذيه فيتجنبه ، وما يفيده فيسعى إليه .

والإدراك الحسي وظيفة يشترك فيها كل من الإنسان والحيوان ، غير أن الله سبحانه وتعالى قد خص الإنسان بوظيفة إدراكية أخرى هامة يتميز بها عن الحيوان ، ألا وهي العقل ، الذي به يستطيع الإنسان أن يعلو بإدراكه عن الأشياء المحسوسة ، فيفكر في المعاني المجردة كالخير والشر ، والفضيلة والرذيلة ، والحق والباطل ، والذي به يستطيع أن يستدل على المبادئ العامة من الملاحظات والتجارب فبالعقل ، مثلا ، يستطيع الإنسان أن يستدل من بديع خلق الله تعالى للكون بأسره وللإنسان نفسه ، على وجود الخالق وقدرته سبحانه وتعالى .

فالحواس والعقل ، إذن ، وسيلتان يستعين بهما الإنسان في الإدراك والمعرفة ، ولكنهما غير كافيتين وحدهما للوصول إلى المعرفة اليقينية في كثير من الأمور . فهما لا يستطيعان ، مثلا ، معرفة الأمور الغيبية التي لا يستطيع أن يدركها الإنسان بحسه أو بعقله ، ولذلك يصبح من الضروري أن يتلقى الإنسان المعرفة من الله سبحانه وتعالى لكي ينظم حياته على الأرض بما يكفل له تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة . ويتلقى الإنسان هذه المعرفة من الله تعالى عن طريق الرسل والأنبياء ، أو عن طريق الإلهام والفيض الإلهي الذي يخص الله به بعض أوليائه .

الحواس في القرآن : 

يولد الطفل لا يعلم شيئا ، ثم لا يلبث أن تبدأ حواسه في أداء وظائفها ، فهو يتأثر بما يقع عليه من مؤثرات خارجية محدثة فيه إحساسات مختلفة هي الأساس الذي يتكون منه فيما بعد إدراكه ومعرفته بالعالم الخارجي . وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في كثير من الآيات ، نذكر منها على سبيل المثال : 

) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) ( (النحل) 

) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) ( (المؤمنون)

) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) ( (الملك)

) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) ( (السجدة) 

واكتفى القرآن بذكر السمع والبصر كأداتين من أدوات الإحساس وذلك ، أولا ، لأهميتهما لقصوى في عملية الإدراك الحسي ، وثانيها ، لأن في ذكرهما ما يكفي للدلالة على أهمية جميع الحواس في عملية الإدراك الحسي ، وهذه خاصة من خصائص أسلوب القرآن الذي يتميز بالإيجاز البليغ ويكتفي بالتلميح والإشارة إلى الحقائق الأساسية العامة ، ويتغاضى عن التفصيلات ، فليس القرآن كتاب علم ، وإنما هو كتاب هداية للناس . وإنه ليكفي هنا في هذا الصدد للدلالة على نعمة الله تعالى على الإنسان بتزويده بأدوات للإدراك الحسي أن يشير القرآن فقط إلى السمع والأبصار.

الإدراك الحسي الخارج عن نطاق الحواس :

هناك نوع آخر من الإدراك الحسي غير العادي ، وهو الذي يسميه علماء النفس بالإدراك الحسي الخارج عن نطاق الحواس ، مثل الاستشفاف وهو رؤية الأشياء أو الأحداث البعيدة الخارجة عن مجال حاسة الإبصار ، والتخاطر وهو إدراك خواطر وأفكار شخص آخر يكون أيضا في الغالب في مكان بعيد ، والاستهتاف وهو سماع نداء أو حديث من مكان بعيد خارج عن مجال حاسة السمع ، وقد اهتم بعض علماء النفس في العصر الحديث بدراسة هذه الظواهر ، وأجروا عليها كثيرا من التجارب ، غير أن النتائج التي توصلوا إليها لم تكن من الدقة والثبات بحيث تمدنا بفهم واضح لهذه الظواهر .

وتوجد في كتب السنة وتاريخ الصحابة والتصوف نماذج من الإدراك الحسي الخارج عن نطاق الحواس والذي يسميه المتصوفون بالكشف . ويروي مسلم عن الرسول (r) أنه قال : [ أتموا الركوع والسجود ، فو الله إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم ] .

تأثير الدوافع والقيم في الانتباه والإدراك الحسي :

توثر دوافع الفرد وقيمه في انتباهه وإدراكه ، وقد بينت ذلك نتائج كثير من الدراسات التجريبية الحديثة . وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في أكثر من موضع حينما ذكر كيف كان الإيمان يجعل المؤمنين في حالة تهيؤ وانتباه إلى الاستماع إلى ما ينزل من آيات القرآن فيدركونها إدراكا واعيا ، ويفهمونها فهما دقيقا ، بينما كانت هذه الآيات نفسها لا تحدث لدي المشركين نفس التأثير ، وإنما كانوا في غفلة عن سماعها وإدراكها وفهمها ، وفيما يلي أمثلة مما قاله القرآن في وصف هذه الحالة من الغفلة عن الإدراك بسبب الشرك وعدم الإيمان بالله مما عطل حواس المشركين في أداء وظيفتها .

التفكير في القرآن

يشترك الإنسان مع الحيوان في وظيفة الإدراك الحسي ، غير أن الإنسان يتميز عن الحيوان بما وهبه الله تعالى من عقل ، ومن قدرة على التفكير تمكنه من النظر والبحث في الأشياء والأحداث ، واستخلاص الكليات من الجزئيات ، واستنباط النتائج من المقدمات ، إن قدرة الإنسان على التفكير هي التي جعلته أهلا للتكليف بالعبادات ، وتحمل مسئولية الاختيار والإرادة ، وهذا هو ما يجعله أهلا للخلافة في الأرض .

) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ( (سبأ : 46) 

ولقد حث الله تعالى الإنسان على التفكير في الكون ، والنظر في الظواهر الكونية المختلفة ، وتأمل بديع صنعه ، ومحكم نظامه . كما حثه على تحصيل العلم ومعرفة سنن الله وقوانينه في جميع ميادين العلوم المختلفة . ونحن نجده هذه الدعوة إلى الملاحظة والتفكير والبحث والتحصيل العلمي في أكثر من موضع في القرآن الكريم .

خطوات التفكير في حل المشكلات :

يصادف الإنسان في حياته كثيرا من المشكلات التي تحتاج إلى حلول . وكل سؤال يوجهه الإنسان إلى نفسه ولا يعرف الإجابة عليه يعتبر مشكلة .

ويجابه الإنسان عادة في حياته كثيرا من المواقف التي تعتبر مشكلة ، وذلك حينما يكون له هدف معين يسعى إلى تحقيقه ولكنه لا يعرف الطريق الذي يمكن أن يؤدي إلى هدفه ، أو كانت هناك عقبات تحول دون الوصول إليه ، وحينما يفكر الإنسان في حل أية مشكلة تعترضه فإنه يتتبع عادة خطوات معينة قام علماء النفس بدراستها وتحليلها ، ويمكن أن نلخص خطوات التفكير في حل المشكلات فيما يلي :

أولا : الشعور بوجود مشكلة :

يبدأ التفكير بشعور الإنسان بوجود مشكلة لها أهمية بالنسبة له ، ويشعر بدافع قوي يدفعه إلى حلها لكي يصل إلى هدفه الذي يسعى إلى تحقيقه . إن الشعور بالمشكلة هو الخطوة الأولى في عملية التفكير .

ثانيا : جمع بيانات حول موضوع المشكلة :

حينما يشعر الإنسان بوجود مشكلة فإنه يقوم عادة بفحص موضوع المشكلة من جميع نواحيه لكي يفهمه جيدا ، ويقوم بجمع جميع المعلومات والبيانات المتعلقة به ، ويقوم بفحصها لمعرفة درجة ملاءمتها لموضوع المشكلة أو عدم ملاءمتها ، ويبقى ما هو ملائم منها ، ويستبعد ما هو غير ملائم . إن جمع المعلومات والبيانات الملائمة لموضوع المشكلة يساعد على توضيح المشكلة وفهمها وتحديدها بدقة مما يمهد لوضع فروض لحلها .

ثالثا : وضع الفروض :

في أثناء جمع المعلومات والبيانات المتعلقة بموضوع المشكلة تطرأ على الذهن بعض الحلول المحتملة للمشكلة ، أو بعض الفروض ، والفرض هو حل مقترح للمشكلة .

رابعا : تقويم الفروض :

وحينما يضع المفكر فرضا لحل مشكلة ما فإنه يقوم عادة بتمحيص هذا الفرض ومناقشته على ضوء ما لديه من معلومات وبيانات للتأكد من ملاءمته ومن صلاحيته لحل المشكلة . وقد يجد المفكر أن الفرض الذي وضعه لا يتفق ولا يتلاءم مع بعض ما لديه من معلومات وحقائق عن موضوع المشكلة ، فيقوم باستبعاد هذا الفرض باعتباره غير صالح لحل المشكلة ، ثم يقوم بوضع فرض آخر ، ويقوم بتمحيصه ومناقشته كما فعل بالفرض الأول . وقد ينتهي الأمر إلى استبعاده . وتكرر هذه العملية حتى يصل أخيرا إلى فرض مقبول وملائم لما لديه من معلومات وحقائق عن موضوع المشكلة ، ويرى أنه صالح لحل المشكلة .

خامسا : التحقق من صحة الفرض :

بعد استبعاد الفروض غير الملائمة ، والوصول إلى فرض ملائم وصالح لحل المشكلة ، يقوم المفكر عادة بجمع بيانات أخرى وإجراء ملاحظات جديدة أو إجراء تجارب للتأكد من صحة هذا الفرض.

البحث التجريبي :

إننا نجد في القرآن أيضا أساس منهج البحث التجريبي للتحقق من صحة المعلومات ، وللوصول إلى المعرفة اليقينية فيما نقوم ببحثه من مشكلات . فلم يكتف القرآن بالدعوة إلى الملاحظة والنظر والتفكير في الظواهر الكونية ، وإنما أعطانا أيضا مثالين واقعين للبحث التجريبي . وبالرغم من أن إبراهيم (u) كان مؤمنا بالله تعالى ، وبالبعث ، إلا أنه أراد أن يطمئن قلبه للإيمان بأن يشاهد بالتجربة الواقعية كيف يحيي الله تعالى الموتى .

أخطاء التفكير :

إن التفكير معرض للخطأ ، فقد يعترض التفكير بعض العوائق فتحرفه عن طريقه السوي ، وتحول بينه وبين الوصول إلى الحقيقة . وإذا تراكم على الإنسان كثير من عوائق التفكير أصيب تفكيره بالجمود ، وأصبح غير قادر على تقبل الآراء والأفكار الجديدة ، وإذا وصل الإنسان إلى هذه الحالة فقد التفكير قيمته العظيمة في حياته ، فلم يعد يؤدي وظيفته الطبيعية في عملية التمييز بين الحق والباطل وبين الخير والشر ، وفي اكتشاف الحقائق ، واكتساب العلوم ، والترقي بالإنسان في مدارج الرقي والكمال . وإذا تعطل تفكير الإنسان وجمد فقد الإنسان الميزة الرئيسية التي تميزه عن الحيوان ، بل أصبح كالحيوان أو أضل سبيلا .

التمسك بالأفكار القديمة :

إن التمسك بالأفكار القديمة ،وبما جرى عليه العرف والتقاليد ، من العوامل الهامة التي تسبب جمود التفكير وعدم تقبله لما يعرض عليه من أفكار جديدة والإنسان يميل عادة إلى التمسك بما هو مألوف لديه ، وبما اعتاده من قبل ودرج عليه ، ويصبح تخليه عن عاداته وأفكاره القديمة أمرا يحتاج إلى قدر من الجهد والإرادة والعزم ، كما يتطلب القدرة على النظر إلى الأمور نظرة تحليلية محايدة تمكنه من التمييز بين الحق والباطل ، وليس هذا أمرا يسيرا على كثير من الناس ، وقد وصف القرآن تمسك كثير من الناس في جميع عصور التاريخ بعقائد آبائهم وعباداتهم ، وعدم قدرتهم على النظر في عقيدة التوحيد التي كان يدعوهم إليها الأنبياء والرسل بفكر متحرر من قيود العادات والتقاليد والأفكار القديمة . فتقليد الآباء ، والتمسك بأفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم كان من العوامل الهامة في جمود تفكير كثير من الناس ، فلم يكن من السهل عليهم التخلي عنها ، وقبول دين التوحيد الذي دعاهم إليه الأنبياء والرسل .

عدم كفاية البيانات :

ليس من المتيسر للإنسان أن يفكر تفكيرا سليما في موضوع ما ، دون أن تكون لديه البيانات الكافية والمعلومات الضرورية المتعلقة بالموضوع الذي يفكر فيه ، ولا يستطيع أن يصل بتفكيره إلى نتيجة سليمة دون أن تتجمع لديه الأدلة والبراهين الكافية التي تؤيد صحة ما يصل إليه من نتيجة . ويختلف الناس في مدى إتباعهم القواعد المنطقية السليمة في تفكيرهم وفي مناقشاتهم وفيما يصدرون من آراء وأحكام . والعلماء والحكماء من الناس وأصحاب الفطنة السليمة يتحرجون أشد الحرج في إبداء الرأي أو إصدار الأحكام دون أن تكون لديهم الأدلة الواضحة البينة التي يستندون إليها فيما يصدرون من آراء وأحكام ، غير أن كثيرا من الناس لا يتبعون القواعد المنطقية السلمية في تفكيرهم ، فهم كثيرا ما يتعجلون في إبداء الرأي في الأمور دون أن تكون لديهم البيانات الكافية ، وكثيرا ما يتعجلون في إصدار الأحكام دون أن تتجمع لديهم الأدلة الواضحة التي تؤيد صحة ما يصدرون من أحكام . وإن عدم توافر البيانات والمعلومات والأدلة الكافية من العوامل الهامة لكثير من أخطاء التفكير الشائعة بين الناس . وقد أشار القرآن إلى أهمية المعرفة بالموضوع في الوصول إلى الحق فيه ، ونهانا عن الكلام وإبداء الرأي فيما ليس لنا به علم . كما نهانا عن إتباع ما نسمعه من أقوال وآراء دون أن يكون لدينا علم بها ، ودون أن تتضح لنا الأدلة والبراهين على صحتها .

التحيز الانفعالي والعاطفي :

تؤثر ميول الإنسان ودوافعه وانفعالاته وعواطفه في تفكيره وتجعله يقع في أخطاء التحيز . وقد بينت بعض الدراسات التجريبية الحديثة في علم النفس حدوث أخطاء في التفكير نتيجة التحيز الانفعالي والعاطفي . ففي أحدى هذه التجارب قدمت إلى مجموعة من الطلبة بعض البراهين القياسية وطلب منهم أن يبينوا ما إذا كانت النتيجة تعتبر منطقية من المقدمتين المستخدمتين في القياس .

وقد أشار القرآن إلى تأثير الهوى في الإنسان ، وما يؤدي إليه من الانحراف بتفكيره عن اتجاهه السليم ، فيفضل سبيله ويعجز عن التمييز بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، وبين الهدى والضلال .

إن اتباع الهوى ، والتأثير بالميول النفسية ، وبالحالة الانفعالية يميل بالإنسان إلى التحيز في رأيه وفيما يصدره من أحكام ، ويؤدي ذلك عادة إلى أخطاء التفكير ، ولذلك ، كان من الضروري للمفكر ، لكي يهتدي إلى الحقيقية ، أن يتحرر من تأثير ميوله وانفعلاته وتعصباته التي تكبل تفكيره وتعوقه عن الوصول إلى الحقيقة .

التعلم في القرآن

من فضل الله تعالى على الإنسان أنه زوده كذلك – بالإضافة إلى نعمة الإدراك الحسي والتفكير – باستعداد فطري للتعلم واكتساب المعرفة والعلوم والمهارات والصناعات مما يزيد من قدرته على تحمل مسئولية الحياة على الأرض وعمارتها ، ومما يمكنه من تنمية قدراته ومهاراته بما يكفل له بلوغ ما شاء الله تعالى له من الكمال الإنساني .

مصادر العلم :

ويكتسب الإنسان العلم أو المعرفة من مصدرين رئيسيين : مصدر إلهي ، ومصدر بشري ، وهذان النوعان من العلم متكاملان ، ويرجعان أساسا إلى الله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان ، وأمده بأجهزة وأدوات للإدراك واكتساب العلم . ونعني بالعلم الصادر من مصدر إلهي ذلك النوع من العلم الذي يأتينا مباشرة عن الله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي أو الإلهام أو الرؤيا الصادقة.

ونعني بالعلم الصادر من مصدر بشري ذلك النوع من العلم الذي يتعلمه الإنسان من خبراته الشخصية في الحياة ، ومن اجتهاده الخاص في الاستطلاع والملاحظة ومحاولة حل ما يجابهه من مشكلات عن طريق المحاولة والخطأ ، أو عن طريق التربية والتعليم من والديه ومن المؤسسات التعليمية ، أو عن طريق البحث العلمي . غير أن هذا العلم الذي نحصل عليه نتيجة اجتهادنا البشري ، هو أيضا ، في الحقيقة ، مستمد من الله تعالى ، فهو جل شأنه الذي يمدنا بأدوات الإدراك التي نحصل بها العلم ، وهو الذي يهدينا إلى ارتياد المسالك الصحيحة للوصول إلى العلم ، وهو الذي يهدينا إلى اليقين بما نصل إليه من نتائج .

تعلم اللغة : 

إن من أعظم النعم التي خص الله تعالى بها الإنسان ، وميزه بها على الحيوان هي قدرته على تعلم اللغة . فاللغة هي أداة الإنسان الرئيسية في التفكير واكتساب المعرفة وتحصيل العلوم . فاللغة ، باعتبارها رموزا للمفاهيم ، قد مكنت الإنسان من تناول جميع المفاهيم في تفكيره بطريقة رمزية ، مما ساعده على أن يحقق ما حققه من تقدم هائل في اكتساب المعرفة وتحصيل العلوم والصناعات المختلفة .

تعلم آدم للغة :

ولما كان للغة هذا القدر العظيم من الأهمية في حياة الإنسان ، وفي تمكينه من التقدم المستمر في تعلمه وتفكيره ، فقد كان أول شيء علمه الله تعالى لآدم عليه السلام هو أسماء جميع الأشياء.

وأراد الله سبحانه وتعالى أيضا أن يعلم أبوينا آدم وحواء عليهما السلام بعض العادات السلوكية المفيدة في حياتهما ، والتي تلائم طبيعة تكوينهما الإنساني من مادة وروح ، وما قد ينشأ عنهما من صراع بين مطالب كل من البلدان والروح .

فقد أرادت مشيئة الله تعالى أن يعلمهما إرادة الاختيار واتخاذ القرار ، وتحمل مسئولية ما يقومان به من اختبارات ، وما يتخذانه من قرارات ، وذلك بأن نهاهما عن الاقتراب من الشجرة .

طرق التعلم في القرآن

يتعلم الإنسان بطرق مختلفة ، فقد يتعلم عن طريق التقليد ، فالطفل عادة يقلد والديه ويتعلم منهما كثيرا من العادات وأنماط السلوك . ويتعلم الإنسان أيضا عن طريق التجربة العملية أو المحاولة والخطأ كثيرا من الحلول المفيدة .

التقليد: 

يتعلم الإنسان كثيرا من سلوكه وعاداته في المرحلة المبكرة من حياته عن طريق تقليد والديه وإخوته . فهو مثلا ، يبدأ تعلمه للغة بمحاولة تقليد والديه وإخوته في النطق ببعض المقاطع الصوتية التي يكررونها أمامه عدة مرات . كما يبدأ تعلمه المشي بمحاولة تقليد والديه وإخوته فيما يقومون به من اعتدال القامة ، وحركات القدمين والساقين ، وهكذا يتعلم الإنسان كثيرا من عاداته وسلوكه عن طريق تقليد أفراد أسرته .

التجربة العملية والمحاولة والخطأ :

ويتعلم الإنسان أيضا عن طريق التجربة العملية في مواجهة مشكلات الحياة المختلفة ، ومحاولة حلها والتغلب عليها . ويقابل الإنسان دائما في حياته مواقف جديدة لم يتعلم من قبل كيف يستجيب لها ، أو كيف يتصرف فيها ويتوافق الإنسان دائما لمثل هذه المواقف الجديدة بأن يحاول أن يستجيب لها باستجابات مختلفة ، فيخطئ في بعضها ، وقد يصيب أحيانا . وهكذا يتعلم الإنسان دائما ، عن طريق ما يسميه علماء النفس المحدثون المحاولة والخطأ (أو الإشراط الإجرائي) استجابات جديدة للمواقف الجديدة ، وحلولا لما يقابله من مشكلات في حياته العملية.

التفكير :

ويتعلم الإنسان أيضا عن طريق التكفير . فحينما يفكر الإنسان في حل مشكلة معينة فإنه يقوم في الواقع بنوع من المحاولة والخطأ ذهنيا . فهو يستعرض في ذهنه الحلول المختلفة للمشكلة ، ويرفض الحلول الخاطئة أو غير الملائمة ، ثم يختار الحل الذي يراه ملائما وصحيحا . فعن طريق التفكير يتعلم الإنسان حلولا جديدة لمشكلة ، ويكتشف علاقات بين الأشياء والأحداث ، ويستنبط مبادئ ونظريات وجديدة ، ويهتدي إلى ابتكارات واختراعات جديدة . ولذلك يسمى بعض علماء النفس المحدثين عملية التفكير بعملية التعلم العليا .

مبادئ التعلم في القرآن الكريم

تتم عملية التعلم في يسر ونجاح إذا ما توافرت مبادئ معينة . وقد تتعثر عملية التعلم ، وقد تفشل إذا لم تتوافر هذه المبادئ . وإذا درسنا المنهج الذي اتبعه القرآن في دعوته لعقيدة التوحيد ، وفي تربيته للمؤمنين وغرس المبادئ والقيم الإسلامية في نفوسهم ، لاستطعنا أن نستخلص من هذا المنهج بعض المبادئ الهامة لعملية التعلم التي استخدمها القرآن في تغييره لسلوك المؤمنين ، وفي تعليمهم العقائد والقيم الإسلامية . وسنرى أن هذه المبادئ التي استخدمها القرآن في التربية الروحية للمؤمنين لم يكتشف علماء النفس عن أهميتها في عملية التعلم إلا أخيرا في أوائل القرن العشرين . وسنحاول فيما يلي أن نستعرض مبادئ التعلم في القرآن.

الدافع : 

للدافع أهمية كبيرة في التعلم . فإذا توافر الدافع القوي للحصول على هدف معين ، وتوافرت الظروف المناسبة ، قام الإنسان يبذل الجهد الضروري لتعلم الطرق الصحيحة للوصول إلى هذا الهدف. وإذا جابه الإنسان مشكلة ، وشعر بحاجة شديدة إلى حل هذه المشكلة ، فإنه يقوم في العادة بكثير من المحاولات لحل هذه المشكلة ، حتى ينتهي به الأمر إلى تعلم الحل الصحيح لهذه المشكلة .

وقد بينت كثير من الدراسات التجريبية التي أجريت حديثا على الحيوان والإنسان أهمية الدافع في حدوث التعلم . وقد استخدم القرآن في تربيته الروحية للمسلمين أساليب مختلفة في إثارة دوافعهم إلى التعلم . فاستخدم الترغيب والترهيب ، واستخدم القصص للتشويق ، كما استعان بالأحداث الجارية الهامة التي تثير دوافع الناس وانفعالاتهم وتجعلهم متهيئين لتعلم العبرة من هذه الأحداث.

( أ ) إثارة الدافع بالترغيب والترهيب :

وقد اهتم القرآن الكريم في دعوته إلى الإيمان بعقيدة التوحيد بإثارة دوافع الناس بترغيبهم في الثواب الذي سيحظى به المؤمنون في نعيم الجنة ، وبترهيبهم من العقال أو العذاب الذي سيلحق بالكافرين في نار جهنم ، وآيات الترغيب التي تصف نعيم الجنة تبعث في المسلمين الأمل في الحصول على هذا النعيم ، وتدفعهم إلى التمسك بالتقوى ، والإخلاص في أداء العبادات ، والعمل الصالح ، والجهاد في سبيل الله ، وعمل ما يرضي الله ورسوله ، آملين أن يكونوا من أهل الجنة. والآيات التي تصف عذاب جهنم تبعث فيهم الرهبة من هذا العذاب الأليم الذي ينتظر الكافرين والمنافقين والعاصين لأوامر الله تعالى ، ويدفعهم ذلك إلى الابتعاد عن ارتكاب الذنوب والمعاصي وكل ما يغضب الله ورسوله ، آملين أن ينجيهم الله من عذاب جهنم . وهكذا كان المسلمون متأثرين بدافعين قويين .

(ب) إثارة الدافع بالقصص : 

إن للقصة تأثيرا تربويا هاما مما جعل المربين منذ قديم الزمان يستخدمونها في تربية النشأ وتعليمهم المثل العليا ، والقيم الدينية والخلقية . فالقصة بما تصوره من أحداث ووقائع وشخصيات تشد الانتباه ، وتشوق المستمعين إلى تتبع أحداثها ووقائعها ، وتبعث فيهم مختلف الانفعالات والمشاعر التي تجعلهم يشتركون في أحداثها وجدانيا ، ويتأثرون بها عاطفيا ، فتصبح عقولهم ونفوسهم متقبلة لما تتضمنه من حكم ومواعظ وعبر ، ولما ترغبهم فيه من مثل عليا وقيم.

ولقد كان القصص من الوسائل الهامة التي استعان بها القرآن لإثارة الدافع للتعلم ، لما تثيره من تشويق ، ولما تستدعيه من انتباه . وكان القرآن يبث في ثنايا القصص ما يريد أن يبلغهم من أخبار الأنبياء والرسل السابقين وتحذيرهم من سوء المصير الذي لحق بالكافرين من الأمم السابقة ، أو ما يريد أن يعلمهم من مبادئ الدين وأصول العقيدة ، أو من عبر وحكم .

) لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ... ( 

(ج) الاستعانة بالأحداث الهامة :

ومن العوامل التي تساعد على إثارة الدافع والانتباه وقوع بعض الأحداث أو المشكلات الهامة التي تهز وجدان الناس وتثير اهتمامهم وتشغل بالهم . ويكون الناس عادة تحت تأثير هذه الأحداث الهامة التي تمر بهم في حالة تهيؤ واستعداد لتعلم العبرة المتضمنة في هذه الأحداث . وقد استعان القرآن بالأحداث الهامة التي كانت تمر بالمسلمين لتعليمهم بعض العبر المفيدة لهم في حياتهم. ومن الطبيعي أن يكون المسلمون في أوقات وقوع هذه الأحداث المثيرة لوجدانهم أكثر استعدادا ، وأكثر قبولا لتعلم العبرة واستيعابها . ومن أمثلة ذلك ما حدث في غزوة حنين حينما أعجب المسمون بكثرتهم وقوتهم واطمأنوا إلى أنهم سينتصرون على الكفار ونسوا أن النصر بمشيئة الله وحده ، فأراد الله تعالى أن يعلم المسلمين أن الكثرة لا تؤدي بالضرورة إلى النصر ، وإنما ينصر الله من يشاء من عباده الذين يعمر الإيمان والتقوى قلوبهم حتى ولو كانوا قلة .

الانتباه :

إن الانتباه عامل هام في التعلم واكتساب المعرفة وتحصيل العلم . فإذا لم ينتبه الإنسان ، مثلا ، إلى محاضرة ما ، فإنه لا يستطيع أن يدرك ما تضمنته من معلومات ، وهو بالتالي لا يستطيع أن يتعلمها وأن يتذكرها فيما بعد . ولذلك فإن المعلمين والمربين يحصرون دائما على إثارة انتباه تلاميذهم حتى يمكنهم استيعاب الدروس وفهمها وتعلمها . ولقد كان استخدام القرآن للقصص ، كما أشرنا إلى ذلك سابقا ، عاملا هاما في إثارة الانتباه إلى ما تتضمنه من مواعظ وعبر ودعوة إلى التوحيد ، وقد نوه القرآن بأهمية الانتباه في استيعاب المعلومات وذلك في قوله تعالى : ) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ( .

المشاركة الفعالة :

ونحن نجد في القرآن تطبيقا لمبدأ المشاركة الفعالة ، يتضح ذلك من الأسلوب الذي اتبعه القرآن في تعليم المسلمين الخصال النفسية الحميدة ، والأخلاق والعادات السلوكية الفاضلة عن طريق تدريبهم العملي عليها بما كلفهم القيام به من عبادات مختلفة . فالوضوء وأداء الصلاة في مواعيد معينة كل يوم يعلمان المسلمين النظافة والطاعة والنظام والصبر والمثابرة . والصوم يعلمهم أيضا الطاعة ، والصبر على تحمل المشاق ، والعطف على الفقراء . والحج يعلمهم الطاعة ، والصبر على تحمل المشاق ، وسنتعرض لفوائد العبادات في شيء من التفصيل فيما بعد في الفصل العاشر الخاص بالعلاج النفسي في القرآن .

وقد عنى القرآن عناية فائقة ، إلى جانب تعليم المسلمين الإيمان والعقائد الدينية ، بتوجيههم إلى العمل الصالح ، فالإيمان الصادق يجب أن يعبر عنه في سلوك المؤمن وعمله وذلك بالتحلي بالأخلاق الفاضلة وحب الخير للناس .

توزيع التعلم :

بينت الدراسات التجريبية التي قام بها علماء النفس المحدثون أن توزيع التعلم أو التدريب على فترات متباعدة تتخللها فترات راحة يساعد على سرعة التعلم وتثبيته في الذاكرة ، وأن التعلم الذي يحدث باستخدام طريقة التوزيع أفضل كثيرا من التعلم الذي يحدث باستخدام طريقة التركيز ، وهو التعلم الذي يتم في فترة زمنية متصلة دون أن تتخللها فترات راحة . وقد طبق هذا المبدأ في القرآن.

التدرج في تعديل السلوك :

إن التخلص من بعض عاداتنا السيئة القوية التي مارسناها مدة طويلة من الزمن بحيث أصبحت ثابتة ومستقرة في سلوكنا ليس بالأمر السهل بالنسبة لكثير من الناس ، إذ أن ذلك يحتاج إلى إرادة قوية ، وجهد كبير ، وتدريب طويل ، وهذا أمر قد لا يطيقه كثير من الناس . ولذلك فإن أفضل طريقة يمكن إتباعها للتخلص من عاداتنا السيئة المستحكمة هي أن نعمل على التخلص منها تدريجيا .

العلم اللديني في القرآن

الإلهام والرؤيا

إن قدرة العقل  الإنساني على معرفة الحقائق وتحصيل العلوم محدودة ، فهو لا يستطيع أن يحيط بجميع الحقائق الكونية ، كما أنه عاجز عن أن يصل بجهوده الذاتية إلى معرفة الحقائق الغيبية.

) وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( .

وليس العلم اللدني الذي يحصل عن طريق الإلهام والرؤيا خاصا بالأنبياء والرسل وحدهم ، بل إنه يمكن أن يحصل أيضا للناس الآخرين من غير الأنبياء والرسول إذا ما توافرت فيه شروط معينة من الصلاح والتقوى والصفاء القلبي والشفافية الروحية .

والإلهام هو نوع من العلم الذي يفيض الله سبحانه وتعالى به على الإنسان ، ويلقيه في قلبه ، فتنكشف له بعض الأسرار ، وتتضح له بعض الحقائق . وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى العلم اللدني الذي أفاض الله تعالى به على أنبيائه ورسله . ومن أمثلة ذلك ما ذكره القرآن في سورة الأنبياء عن داوود وسليمان عليهما السلام حينما قاما بالتحكيم بين رجلين أحدهما صاحب حرث اشتكى بأن غنم الرجل الثاني قد رعت فيه وأفسدته . فحكم داود عليه السلام لصاحب الحرث برقاب الغنم . وألهم الله تعالى سليمان عليه السلام بالحكم لصاحب الحرث بالانتفاع بدر الغنم ونسلها وصوفها إلى أن يعود الحرث كما كان بإصلاح صاحب الغنم لها فيردها إليه . وقد رأى داوود رجاحة رأي سليمان فرجع إليه . قال تعالى : ) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) ( (الأنبياء) 

ومن الأمثلة البارزة في القرآن عن العلم اللدني ما جاء في سورة الكهف عن العبد الصالح الذي طلب منه موسى عليه السلام أن يرافقه ليتعلم منه .

قال الله تعالى : ) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) ( (الكهف) 

الأحلام والرؤى 

الأحلام من الظواهر النفسية المألوفة والشائعة بين الناس . وقد حاول المفكرون والعلماء في جميع عصور التاريخ تفسيرها ومعرفة أسبابها ، ووضعوا لذلك عدة تفسيرات مختلفة . فبعض الأحلام ينشأ نتيجة إحساسات يحس بها الإنسان وهو نائم سواء كانت هذه الإحساسات تحدث نتيجة مؤثرات خارجية تؤثر في حواسه أو كانت إحساسات ناشئة عن مؤثرات داخلية من البدن نفسه.

وبعض الأحلام الأخرى يحدث نتيجة استمرار انشغال الفكر بأمور كانت تشغله أثناء اليقظة ، وبعضها الآخر عبارة عن تذكر بعض الأحداث السابقة . وتعتبر نظرية فرويد في تفسير الأحلام أكثر التفسيرات شيوعا الآن بين علماء النفس ، وهي تذهب إلى أن الأحلام طريقة رمزية للتعبير عن دوافع الإنسان اللاشعورية .

التذكر والنسيان في القرآن

للتذكر أهمية عظيمة الشأن في حياة الإنسان ، إذ أن تذكرنا لتعلمنا السابق ، ولمعلوماتنا وخبراتنا السابقة يمكننا من حل ما يواجهنا من مشكلات جديدة في المستقبل ، كما أنه يساعدنا على مواصلة التقدم في اكتساب معلومات جديدة ، وفي اكتشاف حقائق جديدة ، وهو أمر هام في تطور التقدم العلمي والحضاري للإنسان .

ووردت آيات كثيرة في القرآن تشير إلى أن الله سبحانه وتعالى قد بعث النبي (r) ، وأنزل عليه القرآن ليذكر الناس بعقيدة التوحيد ، والبعث والحساب في الآخرة ، وبما غفلوا عنه ونسوه من تعاليم الأنبياء والرسل السابقين . ومن أمثلة هذه الآيات : 

قال الله تعالى : ) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) ( (الأعراف) 

النسيان : 

ونحن إذا رجعنا إلى هذه الآيات ودرسنا معانيها لوجدنا أن النسيان ورد فيها بعدة معان يمكن تلخيصها فيما يلي :

1- النسيان الذي يطرأ في الذهن على الأحداث وأسماء الأشخاص والمعلومات المختلفة التي اكتسبها الإنسان من قبل . وهو النسيان العادي الذي يتعرض له الناس نتيجة تزاحم المعلومات وتداخلها .

2- النسيان الذي ينطوي على معنى السهو ، كما ينسى الإنسان شيئا ما في مكان ما ، أو كما يريد أن يتكلم مع شخص ما في عدة أمور فيتكلم عن بعضها وينسى البعض الآخر ، فلا يذكره إلا فيما بعد .

3- النسيان بمعنى ذهاب الاهتمام بأمر ما . ومن أمثلة هذا النوع من النسيان ما جاء في قوله تعالى : ) نسوا الله فنسيهم (

النسيان والشيطان :

بينت بعض آيات القرآن أن الشيطان يجد في استعداد الإنسان للنسيان مدخلا للتأثير عليه ، فيجعله يسهو أحيانا عن بعض الأمور الهامة التي فيها مصلحته ، كما يجعله أحيانا أخرى يغفل عن ذكر الله سبحانه وتعالى ، ويهمل في إطاعة أوامره . وقد ذكرنا سابقا أثناء كلامنا عن النسيان الناشيء عن السهو الآية التي تذكر ما قاله فتى موسى عن نسيانه الحوت ، فقد قال : ) وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ( .

علاج النسيان في القرآن :

إن علاج النسيان الناشيء عن غفلة القلب عن الله سبحانه وتعالى إنما يكون بالذكر المستمر لله تعالى ، وذكر نعمه وفضله ، وذكر آياته في خلقه ، وذكر الآخرة ويوم الحساب . وقد ذكر القرآن أهمية ذكر الله تعالى كعلاج لهذا النوع من النسيان يتضح ذلك من قوله تعالى : ) واذكر ربك إذا نسيت (

إن علاج نسيان الإنسان لله سبحانه وتعالى وغفلته عن الآخرة إنما يكون بالإكثار من ذكره تعالى بصفة مستمرة حتى يكون الله حاضرا في القلب على الدوام ، لا يغفل الإنسان عن ذكره لحظة . وهذا يذكرنا بأحد مبادئ التعلم التي تكلمنا عنها من قبل وهو التكرار . فإن تكرار ذكر الله تعالى ، يكون عند الإنسان عادة ذكر الله وتسبيحه ، بحيث تصبح هذه العادة ثابتة ومستقرة في سلوكه ، تصدر عنه في كل لحظة من لحظات حياته دون جهد أو عناء ، فيكون الله سبحانه وتعالى حاضرا دائما في القلب ، وهي حالة يهدف إلى تحقيقها كثير من الصوفيين من تكرار قيامهم بالتدريبات والرياضات الروحية .

الجهاز العصبي والمخ في القرآن

تسجيل خبرات الإنسان في المخ :

إن مخ الإنسان يهيمن ويسيطر على كل الأنشطة التي يقوم بها الإنسان . وكل ما يقوم به الإنسان من نشاط يترك أثرا في خلايا المخ . ويبقى هذا الأثر مسجلا في خلايا المخ على نحو ما لم يعرف العلم كنهه بعد . وهذه الآثار الباقية في خلايا لحاء المخ هي الأساس الذي تقوم عليه العمليات العقلية العليا للإنسان كالتعلم والتذكر والتخيل والتفكير .

الإدراك الحسي والمخ :

تتأثر أعضاء الحس بالتنبيهات الحسية التي تقع عليها من المحسوسات المختلفة ، فتنطلق منها نبضات عصبية تمر خلال الأعصاب حتى تصل إلى مراكز الإحساس بالمخ حيث يحدث الإدراك الحسي .. وقد أشار القرآن إلى بعض أعضاء الحس الهامة في كثير من الآيات التي سبق أن أشرنا إليها في الفصل الثالث الخاص بالإدراك الحسي . ومن أمثلة هذه الآيات :

قال الله تعالى : ) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) ( (النحل) 

العمليات العقلية والمخ : 

توجد في لحاء المخ مناطق معينة تقوم بوظائف سيكولوجية معينة وذكرت أنه يوجد في منطقة الفصين الجبهيين في مقدم الرأس مركز العمليات العقلية العليا عند الإنسان . وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى : )  كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) ( (العلق) 

والناصية هي مقدم الدماغ حيث يوجد الفصان الجبهيان اللذان يوجد بهما مركز العمليات العقلية . وإن وصف الله تعالى لناصية أبي جهل الذي نزلت فيه هاتان الآيتان بأنها كاذبة وخاطئة .

الشخصية في القرآن

وقد جاء في القرآن الكريم وصف للشخصية الإنسانية وسماتها العامة التي يتميز بها الإنسان عن غيره من مخلوقات الله ، كما جاء فيه أيضا وصف لبعض الأنماط أو النماذج العامة للشخصية الإنسانية التي تتميز ببعض السمات الرئيسية ، وهي أنماط عامة وشائعة نكاد نراها حتى اليوم في مجتمعنا ، وفي جميع المجتمعات الإنسانية بعامة .

ونجد في القرآن أيضا وصفا للشخصية السوية ، والشخصية غير السوية ، ووصفا للعوامل المكونة لكل من السواء وعدم السواء في الشخصية .

تكوين الإنسان :

لقد أخبرنا القرآن كيف خلق الله تعالى الإنسان من مادة وروح . فبعد أن مر التراب بعدم مراحل من التكوين : من تراب إلى طين ، إلى حمأ مسنون ، إلى صلصال كالفخار ، نفخ الله تعالى فيه من روحه فخلق آدم عليه السلام .

وجاءت كلمة (الروح) في القرآن بعدة معان ، وإن معنى الروح الذي ورد في الآيات التي تشير إلى خلق آدم هو : ( روح منه تعالى يكون به استعداد الإنسان لمعالي الصفات ، وموالاة الحق ) وهو عنصر علوي يتضمن استعداد الإنسان لتحقيق معال الأمور ، وأقدس الصفات .. فهو الذي يؤهله للارتفاع فوق مستوى الحيوان ، ويقرر له أهدافه وغايته العليا في الحياة ، ويرسم له خطوط مناهجه ، ويضيف إلى بشريته النزوع إلى مصدر القيم والمعارف التي تجعل له حقيقة إنسان .

الصراع النفسي :

إن الإنسان يتضمن في شخصيته صفات الحيوان المتمثلة في الحاجات البدنية التي يجب إشباعها من اجل حفظ الذات وبقاء النوع ، كما يتضمن أيضا صفات الملائكة المتمثلة في تشوقه الروحي إلى معرفة الله سبحانه وتعالى والإيمان به وعبادته وتسبيحه . وقد يحدث بين هذين الجانبين من شخصية الإنسان صراع ، فتجذبه أحيانا حاجاته وشهواته البدنية ، وتجذبه أحيانا أخرى حاجاته وأشواقه الروحية ، ويشعر الإنسان بالصراع في نفسه بين هذين الجانبين من شخصيته . ويشير القرآن إلى حالة الصراع النفسي بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان في قوله تعالى :

)فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) ( (النازعات) .

التوازن في الشخصية :

قال الله تعالى : ) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) ( (القصص) 

وفي هذا المعنى قال الرسول (r) : [ ليس خيركم من عمل لدنياه دون آخرته ، ولا من عمل لآخرته وترك دنياه ، وإنما خيركم من عمل لهذه وهذه ] .

وحينما يتحقق هذا التوازن بين البدن والروح تتحقق ذاتية الإنسان في صورتها الحقيقية الكاملة والتي تمثلت في شخصية النبي (r) الذي توازنت فيه القوة الروحية الشفافة ، والحيوية الجسمية الفياضة ، فكان يعبد ربه حق عبادته في صفاء وخشوع كاملين .

والتوازن في الشخصية الإنسانية بين البدن والروح ليس إلا مثالا ، للتوازن الموجود في الكون كله . فقد خلق الله تعالى كل شيء بمقدار وميزان .

الشخصية السوية : 

يتبين لنا مما تقدم أن الشخصية السوية في الإسلام هي الشخصية التي يتوازن فيها البدن والروح ، وتشبع فيها حاجات كل من البدن والروح . إن الشخصية السوية هي التي تعني بالبدن وصحته وقوته ، وتشبع حاجاته في الحدود التي رسمها الشرع ، والتي تتمسك في نفس الوقت بالإيمان بالله ، وتؤدي العبادات ، وتقوم بكل ما يرضي الله تعالى ، وتتجنب كل ما يغضبه . فالشخص الذي ينساق وراء أهوائه وشهواته شخص غير سوي . وكذلك ، فإن الشخص الذي يكبت حاجاته البدنية ويقهر جسمه ويضعفه بالرهبانية المفرطة والتقشف الشديد ، وينزع إلى إشباع حاجاته وأشواقه الروحية فقط ، هو أيضا شخص غير سوي . وذلك لأن كلا من هذبن الاتجاهين المتطرفين يخالف الطبيعة الإنسانية ويعارض فطرتها ، ولذلك فلا يمكن أن يؤدي أي من هذين الاتجاهين إلى تحقيق ذاتية الإنسان الحقيقية ، كما لا يمكن أن يؤدي بها إلى بلوغ كمالها الحقيقي .

أنماط الشخصية في القرآن الكريم

المؤمنون : 

ذكر الله سبحانه وتعالى المؤمنين في كثير من الآيات في معظم سور القرآن ، ووصف سلوكهم في كثير من مجالات حياتهم : في عقيدتهم ، وعبادتهم ، وأخلاقهم ، وعلاقاتهم مع غيرهم من الناس ، وفي علاقاتهم الأسرية ، وفي حبهم لطالب المعرفة ، وفي حياتهم العملية وسعيهم في طلب الرزق ، وفي سماتهم البدنية ، فإذا جمعنا سمات المؤمنين التي وردت في القرآن وحاولنا تصنيفها لأمكن أن نصنفها إلى تسعة مجالات عامة رئيسية من مجالات السلوك وهي :

1- سمات تتعلق بالعقيدة : 

الإيمان بالله ، وبرسله ، وكتبه ، وملائكته ، واليوم الآخر ، والبعث والحساب ، والجنة والنار ، والغيب ، والقدر .

2- سمات تتعلق بالعبادات : 

عبادة الله ، وأداء الفرائض من صلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد في سبيل الله بالمال والنفس ، وتقوى الله ، وذكره دائما ، واستغفاره ، والتوكل عليه ، وقراءة القرآن .

3- سمات تتعلق بالعلاقات الاجتماعية :

معاملة الناس بالحسنى ، الكرم والإحسان ، التعاون ، التماسك والاتحاد ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، العفو ، الإيثار ، الإعراض عن اللغو .

4- سمات تتعلق بالعلاقات الأسرية :

الإحسان بالوالدين وبذي القربى ، حسن المعاشرة بين الأزواج ، رعاية الأسرة والإنفاق عليها.

5- سمات خلقية :

الصبر ، الحلم ، الصدق ، العدل ، الأمانة ، الوفاء بعهد الله وعهد الناس ، العفة ، التواضع ، القوة في الحق وفي سبيل الله ، عزة النفس ، قوة الإرادة ، التحكم في أهواء النفس وشهواتها .

6- سمات انفعالية وعاطفية :

حب الله ، الخوف من عذاب الله ، الأمل في رحمة الله ، حب الناس وحب الخير لهم ، كظم الغيظ والتحكم في انفعال الغضب ، عدم الاعتداء على الغير وعدم إيذائهم ، عدم حسد الغير ، عدم العجب بالنفس ، الرحمة ، لوم النفس والشعور بالندم في حالة ارتكاب ذنب ما.

7- سمات عاطفية ومعرفية :

التفكير في الكون وخلق الله ، طلب المعرفة والعلم ، عدم إتباع الظن وتحري الحقيقة ، حرية الفكر والعقيدة .

8- سمات تتعلق بالحياة العملية والمهنية :

الإخلاص في العمل وإتقانه ، السعي بنشاط وجد في سبيل كسب الرزق .

9- سمات بدنية : 

القوة ، الصحة ، النظافة ، الطهارة .

إن صورة الإنسان المؤمن الذي ترسمه في أذهاننا مجموعة هذه السمات التي وردت في القرآن في وصف المؤمنين إنما تكون لنا نموذجا للإنسان المؤمن يجب أن نعمل على تحقيقه واقعيا في حياتنا ، كما يجب أن تعمل على تنشئة أطفالنا عليها حتى تصبح سمات رئيسية عميقة الجذور في شخصياتهم ، وبهذه الطريقة وحدها يمكن تكوين المجتمع الإسلامي السليم .

الكافرون :

أشار القرآن إلى الكافرين في كثير من الآيات ، ووصفهم بسمات رئيسية يتميزون بها . ويمكن تخليص سمات الكافرين التي وردت في القرآن فيما يلي :

1- سمات تتعلق بالعقيدة :

عدم الإيمان بالتوحيد وبالرسول وباليوم الآخر وبالبعث والحساب .

2- سمات تتعلق بالعبادات :

يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم .

3- سمات تتعلق بالعلاقات الاجتماعية :

الظلم ، عدوانيون في تصرفاتهم نحو المؤمنين فهم يسخرون منهم ويعتدون عليهم ، يأمرون بالمنكر ، وينهون عن المعروف .

4- سمات تتعلق بالعلاقات الأسرية :

يقطعون صلة الأرحام .

5- سمات خلقية :

نقض العهد ، الفجور وإتباع الأهواء والشهوات ، الغرور ، التكبر .

6- سمات انفعالية وعاطفية :

كراهيتهم للمؤمنين وحقهم عليهم ، وحسدهم لهم على ما أنعم الله به عليهم .

7- سمات عقلية ومعرفية :

جمود التفكير والعجز عن الفهم والتعقل ، الختم والطبع على قلوبهم ، التقليد الأعمى لمعتقدات وتقاليد الآباء ، خداع النفس .

المنافقون : 

المنافقون هم فئة من الناس ضعاف الشخصية ومترددون لم يستطيعوا أن يتخذوا موقفا صريحا من الإيمان . وقد ذكر القرآن سماتهم المميزة لهم ، وتوعدهم بأشد العذاب .

) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ( .

ويمكن تلخيص أهم سماتهم التي وردت في القرآن فيما يلي :

1- سمات تتعلق بالعقيدة :

إنهم لم يتخذوا موقفا محددا من عقيدة التوحيد ، فهم يظهرون الإيمان إذا وجدوا بين المسلمين ، ويظهرون الشرك إذا وجدوا بين المشركين .

2- سمات تتعلق بالعبادات :

يؤدون العبادات رياء وعن غير اقتناع ، وإذا قاموا للصلاة قاموا كسالى .

3- سمات تتعلق بالعلاقات الاجتماعية :

يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، يعملون على إثارة الفتن بين صفوف المسلمين ويستخدمون في ذلك الشائعات ، يميلون إلى خداع الناس ، يحسنون الكلام للتأثير على السامعين ، يكثرون من الحلف لدفع الناس إلى تصديقهم يحسنون الظهور بمظهر حسن في ملبسهم لجلب انتباه الناس والتأثير عليهم .

4- سمات خلقية :

ضعف الثقة بالنفس ، نقض العهد ، الرياء ، الجبن ، الكذب ، البخل ، النفعية والانتهازية ، إتباع الأهواء .

5- سمات انفعالية وعاطفية :

الخوف ، فهم يخافون كلا من المؤمنين والمشركين ، الجبن والخوف من الموت مما يجعلهم يختلفون عن القتال مع المسلمين ، يكرهون المسلمين ويحقدون عليهم .

6- سمات عقلية ومعرفية :

التردد والريبة وعدم القدرة على الحكم واتخاذ القرار ، عدم القدرة على التفكير السليم ولذلك وصفهم القرآن بالطبع على قلوبهم يميلون إلى الدفاع عن أنفسهم بتبرير أفعالهم .

الحيل العقلية في القرآن

الحيل العقلية هي عبارة عن سلوك دفاعي يلجأ إليه الإنسان لوقاية نفسه من الشعور بالقلق الذي يمكن أن ينتابه إذا ما عرفت دوافعه الحقيقية الكامنة في نفسه ، والتي يحاول إخفاءها بالالتجاء إلى الحيل العقلية .

الإسقاط :

الإسقاط حيلة عقلية يقوم بها الفرد بإسقاط حالته النفسية ودوافعه وعيوبه وأخطائه على الغير فيدركها فيهم بدلا من أن يدركها في نفسه . فمثلا ، إن الشخص الذي يضمر في نفسه العداء لأحد أصدقائه ، قد يسقط شعوره العدائي على صديقه فيدرك أن صديقه يعامله بعداء .

التبرير :

التبرير حيلة عقلية دفاعية يحاول بها الإنسان تبرير دوافعه وأفعاله غير المقبولة بأن يعطيها تفسيرا يكون مقبولا . وقد كان المنافقون يلجأون إلى التبرير في كثير من الأحيان لتفسير سلوكهم تفسيرا يكون مقبولا . فإذا أفسدوا في الأرض قالوا إنما هم يقصدون الإصلاح ، وهم بذلك إنما يقومون بتبرير أفعالهم تبريرات تبدو مقبولة ومعقولة . وقد وصف القرآن التبرير الذي يقوم به المنافقون بقوله : ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) ( (البقرة) 

تكوين ردة الفعل :

وتكوين رد الفعل حيلة عقلية دفاعية يتخذ فيها الفرد سلوكا يكون مضادا لسلوك آخر يريد إخفاءه فالفرد مثلا ، قد يبدي كثيرا من المجاملة والأدب والاهتمام في معاملة شخص معين كوسيلة دفاعية يخفي بها كرهه له وشعوره العدائي نحوه . وقد كان المنافقون يلجأون إلى هذه الحيلة العقلية الدفاعية لأخفاء حقيقة شعورهم بالكراهية والعداء للمسلمين ، فكانوا يحسنون الكلام معهم ، ويظهرون حبهم وإعجابهم بهم وتقديرهم لهم بقصد إخفاء ما تضمره نفوسهم من كراهية وعداء .

) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)( (البقرة) 

الفروق الفردية في القرآن

توجد فروق كثيرة بين الناس في استعداداتهم وقدراتهم البدنية والنفسية والعقلية . وترجع هذه الفروق إلى تفاعل كل من العوامل الوراثية والبيئية . وقد أشار القرآن إلى الفروق بين الناس في كثير من المواضع .

قال الله تعالى : 

) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) ( (الأنعام) 

) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) ( (الزخرف) 

ومن الواضح أن إشارة القرآن إلى وجود الفروق الفردية ، وإلى أن الفرد لا يكلف إلا ما في وسعه وطاقته إنما هو الفكرة الأساسية فيما وصل إليه علم النفس الحديث من الاهتمام بقياس الفروق بين الأفراد في الاستعدادات والقدرات لتنظيم عملية التعلم بحيث يوجد كل فرد إلى نوع التعليم المناسب لاستعداداته وقدراته ، وهذا هو الهدف من عملية التوجيه التربوي في التربية الحديثة . ويستعين علماء النفس المحدثون أيضا بقياس الفروق الفردية بهدف تحسين عملية التوجيه المهني والاختيار المهني بحيث يمكن وضع كل فرد في العمل المناسب لاستعداداته وقدراته .

نمو الإنسان في القرآن

النمو قبل الميلاد :

أشار القرآن الكريم في أسلوبه المعجز في إيجازه ودلالته إلى مراحل نمو الجنين منذ بداية الحمل حتى وقت الميلاد وذلك في الآيات التالية :

) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ( (المؤمنون) 

النمو بعد الميلاد :

يولد الطفل ضعيفا في حاجة إلى من يرعاه ويعني به حتى ينمو ويكبر . ويستمر نمو الوليد بسرعة كبيرة في الأيام الأولى من حياته ، ولكن تأخذ سرعة النمو تبطؤ تدريجيا مع تقدم العمر ، وتبدو الحياة هادئة مستقرة قبل فترة المراهقة . وما أن تبدأ مرحلة المراهقة حتى تتوالى على الطفل تغيرات قوية وسريعة عضوية وتشريحية ونفسية . ثم تهدأ سرعة هذه التغيرات في نهاية مرحلة المراهقة وبداية مرحلة الرشد التي تكتمل فيما عملية النمو ، وتعود الحياة مرة أخرى إلى الهدوء والاستقرار . ومع أن الراشد يكون قد بلغ تمام النضج في نموه الجسمي ، ونمو قدراته العقلية إلا أنه يستمر في تعلم خبرات جديدة ، وفي اكتساب المعرفة والخبرة والحكمة حتى يصل إلى مرحلة الشيخوخة ، فتأخذ قوته الجسمية في الاضمحلال ، وتبدأ قدراته العقلية في الضعف .

وقد أشار القرآن إلى مراحل النمو التي يمر بها الإنسان بعد الميلاد من الطفولة إلى الشيخوخة بقوله :

) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) ( (غافر) 

النمو الحسي للوليد :

بينت الدراسات الفسيولوجية الحديثة أن حساسية شبكية العين للضوء تكون ضعيفة عند الميلاد ، وهي تنمو حتى تصل إلى كمال نضجها الوظيفي تقريبا في نهاية العام الأول من عمر الطفل . ولا يستجيب الوليد عقب ولادته مباشرة للأضواء الشديدة ، ولكنه يبدأ منذ اليوم الثاني يتعلم تدريجيا أن يستجيب للأضواء المختلفة بغمض العينين أو بإلقاء رأسه إلى الوراء في حركة آلية لتجنب الأضواء الشديدة .

ويسبب نقص التكوين الشبكي لدي الوليد فإن صور الأشياء لا تبدو له واضحة حتى الشهر السادس من عمره حينما يتم نمو التكوين الشبكي في عينيه . وتتحرك عينا الوليد في أول الأمر في تتبعهما للأشياء الساكنة أو المتحركة حركات غير متناسقة . فقد تنظر عينه اليمنى إلى شيء ما ، بينما تنظر عينه اليسرى إلى شيء آخر مما يبدو للناظرين أن بعيني الوليد حولا . ثم تزداد بالتدريب قدرة الطفل على تحريك عينيه حركات متناسقة ، فتتحرك عيناه معا في اتجاه واحد عند تحديقه في شيء ما .

العلاج النفسي في القرآن

نزل القرآن الكريم أساسا لهداية الناس ، ولدعوتهم إلى عقيدة التوحيد ، ولتعليمهم قيما جديدة وأساليب جديدة من التفكير والحياة ، ولإرشادهم إلى السلوك السوي السليم الذي فيه صلاح الإنسان وخير المجتمع ، ولتوجيههم إلى الطرق الصحيحة لتربية النفس وتنشئتها تنشئة سليمة تؤدي بها إلى بلوغ الكمال الإنساني الذي تتحقق به سعادة الإنسان في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة .

قال الله تعالى : ) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) ( (الإسراء) 

ولا شك أن في القرآن طاقة روحية هائلة ذات تأثير بالغ الشأن في نفس الإنسان . فهو يهز وجدانه ، ويرهف أحاسيسه ومشاعره ، ويصقل روحه ، ويوقظ إدراكه وتفكيره ، ويجلي بصيرته ، فإذا بالإنسان بعد أن يتعرض لتأثير القرآن يصبح إنسانا جديدا ، كأنه خلق خلقا جديدا .

الإيمان والشعور بالأمن :

تتفق جميع مدارس العلاج النفسي على أن القلق هو السبب الرئيسي في نشوء أعراض الأمراض النفسية ، ولكنها تختلف فيما بينها في تحديد العوامل التي تسبب القلق . وتتفق هذه المدارس أيضا على أن الهدف الرئيسي للعلاج النفسي هو التخلص من القلق ، وبث الشعور بالأمن في نفس الإنسان ، ولكنها تتبع لتحقيق هذا الهدف أساليب علاجية مختلفة . وهذه الأساليب العلاجية المختلفة لا تنجح دائما في تحقيق الشفاء التام من الأمراض النفسية .

وتتحقق للمؤمن سكينة النفس وأمنها وطمأنينتها لأن إيمانه الصادق بالله يمده بالأمل والرجاء في عون الله ورعايته وحمايته . إن المؤمن دائم التوجه إلى الله تعالى في عبادته وفي كل ما يقوم به من أعمال ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى ، ولذلك فهو يشعر أن الله تعالى معه دائما ، وهو في عونه دائما . وإن شعور المؤمن بأن الله تعالى في عونه كفيل بأن يبث في نفسه الشعور بالأمن والطمأنينة .

والمؤمن الصادق الإيمان لا يخاف من مصائب الدهر ، وغوائل الأيام ، إنه لا يخاف أن تصيبه الأمراض ، أو تقع له الحوادث ، أو تحل به الكوارث . فهو يؤمن بالقضاء والقدر ، ويعلم حق العلم أن ما يحل بالناس من سراء أو ضراء إنما هو ابتلاء من الله تعالى ليعلم من سيحمده على ما يناله من سراء ، ومن سيصبر على ما يناله من ضراء . ولذلك فهو لا يجزع إذا أصابه شر ، بل يتحمل ويصبر ويحمده الله تعالى ، ويدعوه أن يرفع عنه الشر والبلاء .

الإيمان وشعور الانتماء إلى الجماعة :

يحث القرآن المؤمن على أن يحب إخوته المؤمنين ، وأن يحسن إليهم ، ويمد إليهم يد العون والمساعدة .

) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ( (الحجرات) 

وقد حرص القرآن على بث روح الجماعة في نفوس المسلمين بفرض صلاة الجماعة يوم الجمعة حيث يجتمع المسلمون في المساجد للصلاة والتعارف ، كما حث النبي عليه الصلاة والسلام على صلاة الجماعة وفضلها على الصلاة الفردية .

أسلوب القرآن في علاج النفس

ولقد نزل القرآن الكريم لتغيير أفكار الناس واتجاهاتهم وسلوكهم ، ولهدايتهم ، وتغيير ما هم فيه من ضلالة وجهل ، وتوجيههم إلى ما فيه صلاحهم وخيرهم ، ومدهم بأفكار جديدة عن طبيعة الإنسان ورسالته في الحياة ، وبقيم وأخلاق جديدة ، ومثل عليا للحياة . وقد نجح القرآن نجاحا عظيما في التأثير في شخصيات الناس ، وفي تغييرها تغييرا كبيرا كانت له نتائج بعيدة الأثر في وضع أسس جديدة لنظام حياة الإنسان الشخصية ، ولنظام العلاقات الإنسانية سواء في داخل الأسرة ، أو في المجتمع بعامة . وباختصار ، نجح القرآن نجاحا لا نظير له بين جميع الدعوات الدينية في جميع عصور التاريخ في أحداث تغييرات عظيمة الأثر في شخصيات المسلمين ، وفي المجتمع الإسلامي ، فقد نجح القرآن في فترة وجيزة من الزمن في تكوين الشخصية الإنسانية المتكاملة المتزنة الآمنة المطمئنة التي استطاعت بطاقتها الجبارة التي تولدت عن هذا التغيير الذي حدث فيها ، أن تهز العالم وتغير مجرى التاريخ . كيف استطاع القرآن أن يعالج نفوس العرب ، وأن يغير شخصياتهم ؟ هذا هو ما سنحاول أن نتناوله فيما يلي .

- إيمان بعقيدة التوحيد .

- التقوى .

- العبادات .

( أ ) الصلاة . 

(ب) الصوم .

(ج) الزكاة .

(د) الحج . 

- الصبر .

- التوبة .

وهكذا استطاع القرآن أن يعالج نفوس العرب ، ويحدث تغييرات كبيرا في شخصياتهم بالاستعانة بعدة أساليب :

أولا : بث الإيمان بعقيدة التوحيد في نفوسهم ، وغرس بذور التقوى في قلوبهم ، بكل ما يؤدي إليه ذلك من نتائج بالغة الأهمية في تقويم شخصياتهم وسلوكهم .

ثانيا : فرض العبادات المختلفة التي ساعدت على تخليهم عن كثير من عاداتهم السيئة السابقة ، وتحليهم بكثير من العادات والخصال الحميدة التي ساعدت على تكوين شخصياتهم تكوينا سويا متزنا متكاملا .

ثالثا : حثهم على تعلم الصبر ، وهي خصلة تساعد على تحمل مشاق الحياة بنفس راضية ، وتقلل من احتمالات التوتر والضيق والشعور بالهم والقلق .

رابعا : حثهم على المواظبة على ذكر الله مما يشعر الإنسان أنه قريب من الله تعالى ، وفي حمايته ورعايته ، فيغمره الشعور بالأمن والطمأنينة .

خامسا : حثهم على الاستغفار والتوبة مما يساعد على التخلص من القلق الناشيء عن الشعور بالذنب .

سادسا : استخدام مجموعة من الأساليب الفعالة في تعديل السلوك مثل أسلوب التدرج في تعديل السلوك الذي استخدمه القرآن في علاج تعاطي الخمر والربا ، وأسلوب إثارة الدافع بالترغيب والترهيب ، وبالقصص وبالاستعانة بالأحداث الجارية ، وأسلوب المشاركة الفعالة ، وأسلوب توزيع التعلم ، وهي الأساليب التي شرحناها بالتفصيل في الفصل الخاص بالتعلم تحت عنوان (مبادئ التعلم في القرآن ) 

بكل هذه الأساليب نجح القرآن في علاج نواحي الضعف في شخصيات المسلمين ، وفي غرس الخصال الحميدة في نفوسهم مما ساعد على تكوين شخصياتهم تكوينا سويا متزنا متكاملا ، وكان له أكبر الأثر في إحداث تغييرات بالغة الأهمية .

في جميع نواحي الحياة في المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربية ، وفي المجتمع الإسلامي في العالم بأسره .

 

 

 

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

4

متابعين

6

متابعهم

1

مقالات مشابة