
البُعد عن الله: رحلة الضياع في عالم الماديات
مظاهر البُعد عن الله
1. الانهماك في الماديات
أصبح السعي وراء المتع المادية والمال والشهرة هو الهدف الأسمى للكثيرين، مما أدى إلى تغييب البعد الروحي وتهميش القيم الإيمانية في الحياة اليومية. نرى الإنسان يجري وراء الدنيا ليل نهار، يضحي بوقته وصحته وعلاقاته الأسرية من أجل جمع المال، ثم يكتشف في النهاية أنه جمع ما لا يسعده ولا يشبع روحه. لقد تحولت الحياة إلى سباق محموم وراء الماديات، بينما الروح تظمأ لمعنى أعلى ولغاية أسمى.
2. ضعف الصلة بالعبادات
يتجلى البعد عن الله في إهمال الفرائض الدينية، وضعف الإقبال على الطاعات، والابتعاد عن المساجد ومواطن الذكر، مما يوسع الفجوة بين العبد وربه. الصلاة تؤخر أو تهمل، الصيام يصبح عبئاً ثقيلاً، الزكاة تنسى في زحام الحياة، والحج يؤجل إلى وقت الفراغ الذي لا يأتي. العبادات التي من المفترض أن تكون مصدر قوة روحية وتزكية للنفس أصبحت في أسفل قائمة الأولويات.
3. التبعية الثقافية والفكرية
تبني قيم ومفاهيم تتعارض مع التعاليم الدينية تحت شعار التحرر والحداثة، مما يؤدي إلى تشويه الهوية الإيمانية وتبني منظومة قيمية مناقضة للفطرة السليمة. أصبحنا نستورد مفاهيمنا وقيمنا من ثقافات أخرى دون تمحيص أو وعي، ففقدنا هويتنا الأصيلة وأصبحنا أمة تابعة لا متبعة، مستهلكة لا منتجة، مقلدة لا مبدعة.
4. ضعف الوازع الديني في المعاملات
يتجلى البعد عن الله في التعاملات اليومية من خلال انتشار الكذب والخداع والغش في المعاملات، وضعف الضمير الديني في العمل والأخلاق. أصبحت المصلحة الشخصية هي المحرك الأساسي للسلوك، واختفت ثقافة المراقبة الذاتية لله في السر والعلن.
أسباب البُعد عن الله
1. الغفلة والانشغال بالدنيا
يقول تعالى: "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ"، فالغفلة عن ذكر الله والانشغال بملذات الدنيا من أهم أسباب البعد عن الخالق. الإنسان بفطرته ينسى عندما ينشغل بالزخارف الدنيوية، فيغفل عن ذكر ربه وينسى حقيقة وجوده وغاية خلقه.
2. ضعف التربية الإيمانية
غياب التربية الدينية الصحيحة في المنزل والمدرسة والمجتمع يؤدي إلى ضعف البنية الإيمانية لدى الفرد، مما يجعله عرضة للانجراف وراء الشهوات والشبهات. عندما لا يتربى الطفل على حب الله ومراقبته، وينشأ في بيئة لا تحترم القيم الدينية، فإنه سيكبر وهو بعيد عن الله ضعيف الصلة به.
3. وسائل الإعلام والتقنية
ساهمت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في نشر أفكار وقيم تتعارض مع الدين، وأصبحت تشكل مصدراً رئيسياً للتأثير على عقول الشباب وقيمهم. القنوات الفضائية والإنترنت أصبحت تقدم محتوى يروج للإباحية والانحلال الأخلاقي والفكر الإلحادي تحت شعار الحرية والتقدم.
4. صحبة السوء
الرفقة السيئة من أهم أسباب البعد عن الله، فالإنسان يتأثر بمن حوله سلباً أو إيجاباً. صحبة المهملين للعبادات والمتساهلين في الدين تدفع الفرد إلى التقليد الأعمى والابتعاد عن الطاعات.
5. الغرور والاستكبار
الشعور بالاستغناء عن الله والاعتماد على النفس والقدرات الذاتية، والغرور بالنفس والمال والجاه، كل هذه الأمور تدفع الإنسان إلى البعد عن الله ونسيان أنه محتاج إليه في كل لحظة.
آثار البُعد عن الله
1. القلق والاضطراب النفسي
يؤدي البعد عن الله إلى فقدان الطمأنينة القلبية، حيث يقول تعالى: "أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"، فبدون الصلة بالخالق يعيش الإنسان في قلق دائم وعدم استقرار. الدراسات النفسية الحديثة تؤكد أن الأشخاص المتدينين يتمتعون بصحة نفسية أفضل وقدرة أكبر على مواجهة الضغوط الحياتية.
2. تفكك الأسرة والمجتمع
ينتج عن البعد عن القيم الإيمانية تفكك الروابط الأسرية والاجتماعية، وانتشار الجريمة والفساد، وانهيار منظومة القيم التي تحافظ على تماسك المجتمع. الأسرة التي تبتعد عن الله تفقد روحها ومعناها وتتحول إلى مجرد أفراد يعيشون تحت سقف واحد.
3. الخواء الروحي
يشعر الإنسان البعيد عن الله بخواء داخلي رغم امتلاكه لكل أسباب المتعة المادية، لأنه يحاول إشباع حاجات روحية بوسائل مادية لا تلبي هذه الحاجات. هذا الخواء يدفع البعض إلى البحث عن ملاذات روحية مزيفة كالعقاقير المخدرة أو الممارسات الروحية المشبوهة.
4. الضعف والهوان على الأمم
الأمة التي تبتعد عن الله تفقد هويتها وقوتها المعنوية، وتصبح أمة مستهلكة تابعة للأمم الأخرى، تفقد قدرتها على العطاء الحضاري والإبداع الفكري. التاريخ يشهد أن الأمة عندما تكون قريبة من الله تكون قوية منيعة، وعندما تبتعد عنه تصبح ضعيفة مستضعفة.
5. حرمان البركة في الرزق والعمر
البعد عن الله يؤدي إلى حرمان بركة الرزق والوقت، فيشعر الإنسان بأنه يعمل كثيراً وينتج قليلاً، وأن الوقت يمر سريعاً دون تحقيق منفعة حقيقية. البركة هي ذلك السر الإلهي الذي يجعل القليل كثيراً والكثير نافعاً.
سبل العودة إلى الله
1. التوبة والإنابة
يجب على الإنسان أن يعقد العزم على العودة إلى الله بالتوبة الصادقة والندم على ما فات، والاستغفار من ذنوب الماضي. التوبة ليست مجرد كلمات تقال، بل هي عملية تغيير شاملة للفكر والسلوك والاتجاهات.
2. تقوية الصلة بالقرآن
المواظبة على تلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه والعمل بأحكامه، فهو المنهج الرباني الذي يضيء طريق العودة إلى الله. جعل ورد يومي من التلاوة والتدبر، والإنصات للقرآن بخشوع، ومحاولة حفظ ما تيسر منه.
3. المحافظة على الصلاة
الاهتمام بالصلاة وإقامتها على وقتها بخشوع وإتقان، فهي العماد الذي ينهض عليه بناء الإيمان. الصلاة هي الصلة المباشرة بين العبد وربه، وهي المنارة التي تنير الطريق وتعيد التوازن للحياة.
4. صحبة الصالحين
الابتعاد عن رفقاء السوء والبحث عن الرفقة الصالحة التي تعين على الطاعة وتذكر بالله. الصحبة الصالحة هي التي تذكرك بالله إذا نسيت، وتعينك على الطاعة إذا كسلت، وتأخذ بيدك إذا ضعفت.
5. التفكر في خلق الله
التأمل في الكون وآيات الله المشهودة، مما يزيد الإيمان ويقوي الصلة بالخالق عز وجل. التأمل في السماء والأرض، والجبال والبحار، والنبات والحيوان، وفي نفس الإنسان التي بين جنبيه.
6. الدعاء والمناجاة
الإكثار من الدعاء والمناجاة في أوقات الإجابة، فالدعاء هو مخ العبادة وأقرب طريق للقرب من الله. الله تعالى يحب أن يسأله عبده ويطلب منه العون والمساعدة.
7. الصبر والمصابرة
العودة إلى الله تحتاج إلى صبر ومصابرة، فطريق التغيير ليس سهلاً، والانتكاسات ممكنة، ولكن المهم هو الاستمرار والمضي قدماً في طريق العودة.
الخاتمة "

البعد عن الله هو بداية الطريق إلى الضياع والشقاء، بينما القرب منه هو السعادة والطمأنينة. فالإنسان بفطرته يحتاج إلى الاتصال بربه، والاستجابة لنداء الفطرة التي فطره الله عليها. العودة إلى الله ليست مجرد شعارات، بل هي رحلة تتطلب إرادة قوية وعزيمة صادقة، لكن ثمارها حلاوة الإيمان والطمأنينة التي لا تعادلها متعة في الحياة الدنيا.
إن الأمل معقود على كل إنسان شعر بالبعد عن ربه أن يبدأ رحلة العودة، فالأبواب مفتوحة والرحمة واسعة، والقبول مضمون لمن أتى تائباً منيباً. فالله تعالى يقول في الحديث القدسي: "إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة".
فلا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من روح الله إلا الضالون. فباب التوبة مفتوح، ويد الله مبسوطة، والفرصة متاحة للجميع للعودة إلى الله والاستمتاع بحلاوة الإيمان وطعم الطمأنينة
تذكّر دائمًا أن الله أقرب إليك من حبل الوريد. إنه ينتظر عودتك بلهفة وشوق أكبر من شوقك إليه. البُعد عن الله هو ظلمة مؤقتة، لكن نور التوبة والعودة قادر على أن يبدد هذه الظلمات ويملأ القلب طمأنينةً وحبًا وسعادةً لا تضاهيها سعادة دنيوية.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الزمر: 53].
صدق الله العظيم