الإعجاز اللغوي في قوله تعالى: "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا"
الإعجاز اللغوي في قوله تعالى:
"إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا"
سر الدقة الإلهية في تحديد مواقيت الصلاة
مقدمة
من أروع ما يلفت الانتباه في القرآن الكريم دقته اللفظية التي لا مثيل لها، فكل كلمة اختيرت بحكمة، وكل تركيب له معنى عميق. ومن بين هذه الآيات العظيمة، تتجلى روعة البيان الإلهي في قوله تعالى:
> **﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103].**
هذه الآية الموجزة تحمل إعجازًا لغويًا وتشريعيًا فريدًا، إذ جمعت بين الفرض والتوقيت والانضباط الزمني في لفظتين اثنتين: **"كتابًا موقوتًا"**.
فما معنى هذا التعبير؟ ولماذا اختار الله كلمة "كتابًا" دون غيرها؟ وكيف يكشف هذا التركيب عن عظمة النظام الإلهي في حياة المسلم؟
أولًا: معنى قوله تعالى «إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ»
الآية بدأت بـ **إنّ** المؤكدة، للدلالة على الثبات واليقين، أي أن الصلاة **فُرضت فرضًا مؤكدًا** على المؤمنين.
فهي ليست نافلة أو عملًا اختياريًا، بل **عهد وميثاق** بين العبد وربه، وهي أول ما يُحاسب عليه الإنسان يوم القيامة.
جاءت كلمة **«على المؤمنين»** لتدل على التكليف، فهي ليست للمؤمنين وحدهم كصفة شرف، بل كمسؤولية تشريعية، أي أن هذا الفرض موجَّه إليهم باعتبارهم حملة الإيمان والتكليف.
ثانيًا: معنى كلمة «كتابًا» في اللغة والقرآن
كلمة **«كتاب»** في القرآن الكريم لا تعني دائمًا “الكتاب المكتوب” فحسب، بل تأتي بعدة معانٍ، منها:
* **الفرض والإلزام**، كما في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة:183]
> أي فُرض عليكم. * وتأتي بمعنى **التقدير والكتابة في اللوح المحفوظ**، كما في قوله: ﴿كِتَابًا مُّؤَجَّلًا﴾ [آل عمران:145].
وعليه، فالمعنى في الآية أن الصلاة **مفروضة فرضًا مكتوبًا ومقدرًا**، فهي ليست اجتهادًا بشريًا ولا طقسًا وقتيًا، بل **تشريع إلهي ثابت منذ الأزل**.
قال ابن كثير في تفسيره: "أي مفروضة محددة الأوقات، لا تصح إلا في وقتها الذي فرضه الله على عباده."
بينما يقول الطبري "كتابًا أي فرضًا، وموقوتًا أي محدودًا بوقت لا يجوز إخراجه عنه إلا لعذر."
ثالثًا: معنى «موقوتًا» وأسرار الإعجاز فيها
كلمة **«موقوتًا»** من مادة (وقت)، والوقت في اللغة هو الحدّ الزمني الذي يُحدد لأداء شيء معين.
فالمعنى أن الصلاة **لها أوقات مضبوطة لا تُؤدّى إلا فيها**، وهذا هو جوهر النظام في العبادة.
لكن الإعجاز هنا أعمق من مجرد “التوقيت”، فالقرآن لم يقل “في أوقات”، بل قال **«موقوتًا»**، أي **جُعل لها وقت محدد وثابت ومقدر بدقة**.
وهذا يشير إلى:
* **الضبط الزمني المعجز** في الإسلام.
* **التناسق الكوني** بين حركة الشمس ومواقيت الصلاة (الفجر – الظهر – العصر – المغرب – العشاء).
* **الاتساق الروحي** بين انتظام الكون وانتظام المؤمن في عبادته اليومية.
قال الفخر الرازي في تفسيره:
> “المراد أنه فرض مؤقت، أي مقدر بأوقات معلومة، لا يجوز إخراجه عنها، فكما أن لكل شيء ميعادًا، فللعبادة وقتها المحدد من الله.”
رابعًا: الإعجاز اللغوي والبياني في التركيب «كتابًا موقوتًا»
الجمع بين كلمتي **«كتابًا»** و **«موقوتًا»** هو في ذاته إعجاز بياني:
* الأولى تدل على **الفرضية والثبات**.
* والثانية تدل على **التنظيم والدقة الزمنية**.
فكأن الآية تقول:
> “الصلاة فريضة محكمة، مؤقتة بمواقيت مضبوطة، لا تسقط عن المؤمن إلا بعذر.”
وهذا التركيب المختصر يعبر عن **تشريع كامل** في كلمتين فقط.
فهو يشير إلى أن **العبودية لله** ليست عشوائية، بل منضبطة بقانون إلهي يشمل المكان والزمان، والنية والفعل.
ولذلك يقول الزمخشري في الكشاف:
> “أي فرضًا محدود الوقت لا يُقبل قبل دخوله ولا بعد خروجه، وفيه تأكيد على وجوب أدائها في وقتها.”
خامسًا: التناسق بين الآية والنظام الكوني
حين نتأمل في قوله تعالى: **«موقوتًا»** نجد أن الله جعل توقيت الصلاة مرتبطًا بحركة الشمس، أي **بأدق نظام في الكون**.
فالفجر عند بداية النور، والظهر عند توسط الشمس، والعصر عند ميلها، والمغرب عند غروبها، والعشاء عند غياب الشفق.
هذا الارتباط بين **العبادة والزمن الكوني** يجعل الصلاة **إيقاعًا إيمانيًا متناغمًا مع الكون**، وكأن المؤمن يعيش في انسجام روحي مع نظام الخلق كله.
وهذا من **الإعجاز العلمي والبياني**، إذ لم يكن العرب الأوائل يملكون الساعات أو التقنيات، ومع ذلك ارتبطت عبادتهم بنظام دقيق متكامل مع حركة الكون.
سادسًا: البعد الروحي والتربوي في كلمة «موقوتًا»
الآية لم تفرض الصلاة فقط، بل **علّمت الإنسان الانضباط الزمني**، وهو درس حضاري قبل أن يكون تعبديًا.
فمن يؤدي الصلاة في وقتها يتعلم الالتزام، ويحيا في نظام دقيق، ويصبح الزمن عنده قيمة لا تُهدر.
ولذلك قال النبي ﷺ:
> “أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها.” (رواه البخاري ومسلم)
وهنا يظهر **الإعجاز التربوي** في القرآن، فالعبادة في الإسلام ليست انفصالًا عن الحياة، بل **تنظيمًا لها**.
سابعًا: الدلالة البلاغية في الجمع بين «على» و«كتابًا»
قوله تعالى: **«كانت على المؤمنين»** يفيد معنى **الإلزام والوجوب**، فكلمة “على” هنا تشبه قولك “الواجب على الطالب”.
وجاءت بعدها كلمة **«كتابًا»** لتزيد من التوكيد، أي أنها **فريضة مكتوبة، واجبة الأداء، محددة الوقت**.
فاجتمعت ثلاثة معانٍ:
1. **الإلزام** – من “على”.
2. **الفرضية** – من “كتابًا”.
3. **التوقيت** – من “موقوتًا”.
وهذا البناء الثلاثي المحكم **يجمع التشريع والعبادة والانضباط في جملة واحدة**، مما يعجز عن مثله أي كلام بشري.
ثامنًا: أقوال المفسرين في الآية
* **الطبري**: “فرضًا محدودًا بوقت معلوم.”
* **القرطبي**: “أي مفروضًا في أوقات معلومة لا تصح إلا فيها.”
* **ابن عاشور**: “جعلت الصلاة محددة بزمان، فلا تقبل قبل دخول الوقت ولا بعد خروجه.”
* **السعدي**: “أي فرضًا واجبًا متكررًا في أوقات معينة، فيه تنظيم لعبادة العبد واستمراره على الطاعة.”
فهذه الأقوال كلها تؤكد أن الآية تختصر تشريع الصلاة بدقة لغوية وتشريعية مدهشة.
الخاتمة
إن في قوله تعالى: **﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾** معانيَ لا تنقضي، فهي تجمع بين **الفرض والانضباط والعبودية والارتباط الكوني**.
الإعجاز في كلمة **«كتابًا موقوتًا»** يكشف عن **عمق التشريع الإلهي**، الذي ينظم حياة الإنسان في أدق تفاصيلها.
فمن حافظ على الصلاة في وقتها فقد التزم بنظام رباني يضبط حياته كلها، ومن ضيّعها فقد اختل ميزان الزمن والروح في داخله.
ولهذا كانت الصلاة **ميزان الإيمان، وبرهان العبودية، وعنوان الصلة بين العبد وربه**. فسبحان من جعل في كلمتين قرآنيتين نظامًا كونيًا وتربويًا وتشريعيًا كاملًا.
