جماع الغيلة بين الفقه الإسلامي والطب الحديث: دراسة شرعية علمية متوازنة
جماع الغيلة بين الفقه الإسلامي والطب الحديث: دراسة شرعية علمية متوازنة

📚 جماع الغيلة: مفهومه وحكمه في ضوء الشريعة الإسلامية والطب الحديث (مقال تحليلي)
يُعدّ “جماع الغيلة” من المصطلحات الفقهية التي أثير حولها النقاش في كتب السُنَّة والشريعة الإسلامية، وهي مسألة تتعلق بأحوال العلاقة الزوجية الخاصة في ظل ظروف معينة للمرأة. وعلى الرغم من حداثة العلم والطب، إلا أن الشريعة الإسلامية قد تطرقت لهذه المسألة بوضوح ودقة، مُرشدة الأمة إلى ما فيه خيرها وصلاحها. يهدف هذا المقال إلى استكشاف معنى الغيلة وحكمها الشرعي، مع الإشارة إلى ما توصل إليه العلم الحديث في هذا الصدد.
**أولاً: تحديد مفهوم “الغِيلة”**
اختلف العلماء والفقهاء في تحديد المراد بـ “الغِيلة” (بكسر الغين، ويقال لها “الغَيل” بالفتح، أو “الغِيال” بالكسر). يمكن إجمال أشهر الأقوال فيما يلي:
1. **وطءُ المُرْضِع:** وهو الرأي الأكثر شيوعًا وعليه جمهور الفقهاء وأهل اللغة كالإمام مالك في “الموطأ” والأصمعي، وهو أن يُجامع الرجل زوجته وهي **مُرضع** لطفلها.
2. **إرضاعُ الحامل:** وهو رأي آخر لبعض العلماء كابن السكيت، ويرى أنها تعني أن تُرضع المرأة طفلها وهي **حامل** بطفل آخر.
الخلاصة أن كلا المعنيين يدوران حول العلاقة الزوجية أثناء فترة الرضاعة، وتداخل ظروف الحمل والرضاعة، وما قد يترتب على ذلك من تأثير على الرضيع.
**ثانياً: الحكم الشرعي لجماع الغيلة**
يستند الحكم الشرعي لجماع الغيلة بشكل أساسي على حديث نبوي شريف، يوضح موقف الشارع الحكيم من هذه المسألة:
عن جُذَامة بنت وهب الأسدية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **”لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلاَ يَضُرُّ أَوْلاَدَهُمْ.”** (رواه مسلم).
من هذا الحديث الشريف، استنبط العلماء الأحكام التالية:
#### **1. الإباحة وعدم التحريم**
إن تراجع النبي صلى الله عليه وسلم عن نيته في النهي يدل دلالة واضحة على **جواز الغيلة وإباحتها**، فهي ليست حراماً ولا مكروهة كراهة تحريم. وقد أجمع العلماء على أن الغيلة مباحة. لو كانت الغيلة محرمة لأمر الله تعالى نبيه بالنهي عنها صراحة بالوحي.
**2. سبب الهمّ بالنهي**
كان همّ النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها نابعًا من خوفه على صحة الأمة وأجساد أطفالهم الرُّضَّع، حيث كان يُعتقد في السابق، وفي ثقافة العرب خاصة، أن وطء المرضع قد يُفسد اللبن ويضر بالرضيع، فيصيبه بمرض يُسمى “داء الغيل” أو “الضّيْر”.
#### **3. الحكمة من ترك النهي**
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن فارس والروم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم، وهذا دليل على أن الضرر المزعوم لم يكن ضررًا عامًا أو مؤكدًا. وقد رأى العلماء في ترك النهي **رفقًا بالأمة وتيسيرًا عليها**، خاصة للرجل الذي لا يملك إلا زوجة واحدة، فلو حُرم وطؤها مدة الرضاعة، لكان في ذلك مشقة عظيمة عليه، ومخالفة للفطرة. قال الباجي: “لعل الغيلة إنما تضر في النادر، فلذا لم ينه عنها رفقًا بالناس للمشقة على من له زوجة واحدة”.
#### **4. الاحتياط**
على الرغم من إباحتها، فإن من تركها على سبيل **الاحتياط** للولد، خوفًا من حصول الضرر النادر، فلا حرج عليه، وهو أمر يُترك لتقدير الزوجين بناءً على حالة الأم والطفل.
**ثالثاً: رؤية الطب الحديث لجماع الغيلة**
في ظل التطور الطبي، ما هو رأي العلم الحديث في جماع الغيلة؟
* **تأثيره على اللبن:** أجمع الأطباء المعاصرون على أن عملية الجماع نفسها **لا تُفسد لبن الأم بشكل مباشر**، ولا تُغير من تركيبته الكيميائية أو الغذائية بما يجعله ضاراً للرضيع، فاللبن يتكون عبر عملية فسيولوجية ثابتة لا تتأثر بوطء الزوج.
* **تأثيره على الحمل الطارئ:** يظل القلق الطبي الوحيد هو **حمل المرأة المرضع**، فحدوث حمل جديد (الغيلة بالمعنى الثاني) قد يؤدي إلى:
* **ضعف حليب الأم أو انقطاعه:** حيث يتجه الغذاء والجزء الأكبر من الطاقة لدعم الجنين الجديد، مما يقلل من جودة أو كمية اللبن للرضيع، وهذا ما كان يُخشى منه قديمًا.
* **إرهاق الأم:** يقع على الأم المرضع والحامل في الوقت نفسه عبء جسدي كبير.
لكن بشكل عام، يؤكد الأطباء أن جماع الرجل لزوجته المرضع (الغيلة بالمعنى الأول) **جائز طبياً ولا يسبب ضرراً مباشراً ومؤكداً**، وتأثير الحمل الطارئ (الغيلة بالمعنى الثاني) يمكن تداركه بزيادة الاهتمام بتغذية الأم. وهذا يؤكد ما انتهت إليه الشريعة من إباحة الغيلة، لأن الضرر ليس عاماً أو مؤكداً، بل يختلف من حالة لأخرى.
### **خاتمة**
يُظهر حكم الشريعة الإسلامية في مسألة “جماع الغيلة” مرونة وواقعية، حيث لم تُحرم ما لم يثبت ضرره العام والقطعي، رفقاً بالناس وتيسيراً عليهم، وموازنة بين حق الزوج وحاجة الأمة، وبين المحافظة على الصحة العامة. الحكم الشرعي هو **الجواز والإباحة**، وهذا ما يتفق عليه الفقه والطب الحديث. يبقى الأمر متروكاً لاجتهاد الزوجين وتدبيرهما بما يراعي ظروفهما الصحية والنفسية.