image about  الصبي والراهب.. اختر الإيمان حتى لو كلفك حياتك

في سالف العصور، حيث كانت الأرض تعج بالطغاة الذين يدّعون الألوهية، عاش غلام صغير في قصر ملك متجبر، يملأ نفسه كبرياءً وغروراً حتى ادعى الربوبية على الناس. كان الغلام يخدم في قصر ذلك الطاغية، لكن قلبه كان معلقاً بخالقه الحقيقي، بفضل راهب حكيم اتخذه معلماً ومربياً، وغرس في نفسه بذرة التوحيد الخالص لله وحده لا شريك له.

وفي يوم مشمس بين الربى والهضاب، حيث كان الغلام يرعى أغنامه، ظهر ذئب مفترس يتهدد القطيع. لم يكن الذئب مجرد حيوان بري، بل كان اختباراً إلهياً لقوة إيمان ذلك الفتى. أمسك الغلام بحجر صغير، ورفع قلبه إلى السماء وقال بثبات: "بسم الله، الله أكبر". انطلق الحجر بقوة لا من قوة بدنه، بل من قوة إيمانه، فأصاب الذئب في مقتل. وقف الغلام مذهولاً أمام هذه المعجزة، فأدرك أن القوة الحقيقية تكمن في التوكل على الله، لا في عضلات الأجساد.

لم يستطع الغلام كتم هذه النعمة، فانطلق يحدث الناس عما رأى، فانتشر خبر المعجزة كالنار في الهشيم، حتى وصل إلى مسامع الملك. هاج الطاغية غضباً: "كيف يجرؤ هذا الصبي على الإيمان بغيري؟!". أمر بإحضار الغلام على الفور، وحاول بكل وسائل الإغراء أن يثنيه عن عقيدته. عرض عليه جبالاً من الذهب، ووعده بأرفع المناصب، وخاطبه بصوت ملتوٍ: "إن تخلّيت عن هذا الإله الوهمي، فسأجعلك ثاني اثنين في مملكتي".

لكن الغلام، بقلب ثابت كالجبال، ردّ بكل شجاعة: "لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك ديني، ما تركته. إيماني بالله لا يُباع بكل ذهب الدنيا". فتحولت نظرات الملك من الإغراء إلى الغضب الجامح، وقرر أن يكسر إيمان هذا الصبي بالتعذيب.

بدأت المحنة الحقيقية. أمر الملك برمي الغلام من قمة جبل شاهق. اجتمع الناس لمشاهدة النهاية المتوقعة للصبي المتمرد. وفي اللحظة الحاسمة، عندما دُفع الغلام من حافة الجبل، ارتفع صوته بدعاء خاشع: "يا الله اكفنيهم بما شئت". وفجأة، هبت رياح غريبة تحمل الغلام بلطف كالريشة، وتضعه على الأرض سالماً معافى. ارتفعت صيحات الدهشة من الحشود، بينما ازداد الملك حنقاً.

لم ييأس الطاغية، فأمر بوضع الغلام في قارب صغير وإلقائه في البحر الهائج بعيداً عن الشاطئ. تصور الجميع أن هذه النهاية الحتمية، لكن الغلام في وسط الأمواج العاتية رفع كفيه: "يا رب، أنت حسبي ونعم الوكيل". فهدأت الأمواج فجأة، وعاد القارب إلى الشاطئ وكأن البحر نفسه يحمل رسالة تسليم للغلام المؤمن.

مع كل معجزة، كان الإيمان يزداد في قلوب الناس. تحولت نظرات الشفقة إلى نظرات إعجاب، وتحولت الهمسات الخافتة إلى إقرار علني بالإيمان. صار للغلام أتباع كثر، رأوا في صموده دليلاً على صدق ما يدعو إليه.

أدرك الملك أنه يواجه معركة ليست مع غلام صغير، بل مع إيمان لا تقهره السلاطين. فدبّر حيلة أخيرة يجمع فيها بين المكر والقسوة. جمع الناس في ساحة القصر، وأحضر غلاماً آخر بريئاً، ووضع سكيناً في يد الغلام المؤمن وقال: "اقتل هذا الغلام، وأعطيك حياتك".

وقف الغلام المؤمن عند مفترق الطرق: حياته مقابل حياة بريء. لكن القلب الممتلئ إيماناً لا يعرف التردد. ألقى السكين جانباً وقال: "لن أقتل نفساً بريئة خلقها الله". فصاح الملك غاضباً: "إذن سأقتلك أنا!".

هنا جاءت اللحظة الأكثر إثارة في القصة. قال الغلام المؤمن للملك بهدوء يخفي وراءه حكمة إلهية: "لن تستطيع قتلي إلا إذا فعلت ما آمرك به". وافق الملك مستغرباً. طلب الغلام أن يجمع كل الناس في المملكة، وأن يصلبه على جذع شجرة، ثم يأخذ سهماً من كنانته ويطلق عليه وهو يقول: "بسم الله رب الغلام".

ظن الملك أنه أخيراً انتصر، ففعل كل ما طلبه الغلام. اجتمع الآلاف، وشاهدوا الغلام يرفع على الخشبة، ثم أخذ الملك السهم وصرخ: "بسم الله رب الغلام" وأطلقه. انطلق السهم ليصيب قلب الغلام، فيسلم الروح لخالقها.

في تلك اللحظة التاريخية، حدث ما لم يتوقعه أحد. صاح الجمع كله بصوت واحد: "آمنا برب الغلام!". انتشر الإيمان كالبرق، واهتز عرش الطاغية، وسقطت أوهام الألوهية الكاذبة.

هذه القصة، التي رواها النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجها الإمام مسلم في صحيحه، تظل نبراساً للأجيال. تذكرنا أن الإيمان الحق لا تهزه العواصف، وأن دم الشهيد هو بذرة الإيمان، وأن الله ينصر من ينصره ولو بعد حين. فكم من غلام صغير بإيمانه يهز عروش الطغاة، وكم من قضية حق تنتصر بصدق أبنائها.