بائع التمر الذي زاره عمر
الغضب في السوق
كان سوق المدينة يغلي بحركة النهار، والغبار يتطاير من تحت الأقدام والأثواب، والنداءات تتصادم في الهواء: "تمر جيد!"، "اقتربوا يا مَن تُرِيدون البركة في تجارتكم!". كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يدور بين الأزقة والحوانيت كعادته، عيناه كشعاعين من نور، تبحثان عن الظلم حتى ولو كان تحت حجر. لم يكن يحكم من فوق كرسي، بل كان يحكم من بين الحجارة والغبار وعرق الجباه.
وصل إلى حانوت صغير لبيع التمر. وقف الرجل كالطود، يفحص ببصره الثاقب كومة التمر المعروضة. لمح شيئاً. مد يده الكبيرة، القوية كفأس، إلى داخل الكومة، قلب حفنة من التمر الجاف الزاهي الذي في الأعلى، ليُظهر ما تحته: تمر رطب، رديء، يوشك أن يفسد. كانت الخديعة واضحة كالشمس. غَطَّى البائع الرديء بالجيد ليغش المشترين.
ارتفع حاجبا عمر، وانكمشت شفتاه خطاً مستقيماً واحداً. دقّ بسبابته على منضدة الحانوت دقةً جعلت الأقداح ترن. "ما هذا؟!" صوته لم يكن عالياً، لكنه قطع ضجيج السوق كسكين. التفت البائع، شاب في مقتبل العمر، ارتسم الذعر على وجهه كما ترتسم الأمواج على الرمل عند هبوب العاصفة.
القصة المخبأة تحت التمر الرديء
أخذ عمر البائع إلى جانب الحانوت، بعيداً عن أعين الناس. "أتغش المسلمين؟!" سأله. كانت كلمة "تغش" ثقيلة كجبل أُحد. انحنى رأس البائع، لكنه لم يقل شيئاً. "أجِب!" أمره عمر. عندها، ارتفع رأس الشاب، وفي عينيه لمعة ليست دموعاً، بل كانت شيئاً آخر، شيئاً أشبه بالكرامة المجروحة الممزوجة باليأس.
بدأ الشاب يحكي، وكلماته كانت تخرج متعثرة، كأنها تخاف من النور:
“يا أمير المؤمنين... ليست القصة كما ترى. أنا لا أملك هذا الحانوت. أنا أجير. صاحب الحانوت هو الذي يأمرني بهذا. التمر الجيد الذي في الأعلى هو تمر جديد اشتراه. أما هذا الرديء تحته، فهو بقايا من موسم سابق، تمر قديم لم يَبِعْه. يأمرني أن أغطي القديم بالجديد لأبيعه وأتخلص منه.”
قالها والشجاعة تتصارع مع الخوف في صوته. ثم أردف، وخفض صوته أكثر: “وقد هددني... إن لم أفعل... سيطردني من العمل. ولن يدفع لي أجرتي المتأخرة.”
سكت عمر. نظر إلى يدَي الشاب، رأى آثار التعب فيها. نظر إلى ثوبه البسيط المترب. لم يكن هنا لصاً محترفاً، بل كان رزقاً مسكيناً بين فَكَّيْ طمع صاحب، وخوف فقير.
العدل الذي يبحث عن الجذور
لم يصرخ عمر، ولم يعاقب. غادر السوق بخطواته الواسعة، والشاب خلفه، قلبه يرتجف. لم يذهب إلى القصر. ذهب مباشرة إلى دار صاحب الحانوت. كان الرجل غنياً، بيته من الحجر الجيد، في حارة هادئة بعيدة عن ضجيج السوق.
دق عمر الباب. خرج صاحب الدار، وعندما رأى الخليفة نفسه على عتبة بيته، اصفرّ وجهه وارتجفت يداه. أدخلهما إلى الدار. جلسوا في فناء الدار تحت شجرة ليمون. لم يبدأ عمر بالاتهام. بدأ بالسؤال، بأسلوب نجيب محفوظ في اكتشاف دواخل النفوس: "كيف تجارة التمر هذا الموسم؟". "كيف حال أهلك؟". كان الرجل يجيب بتردد، كأنه يمشي على حبال من حرير فوق نار.
ثم، وبهدوء مروع، قال عمر: "أخبرني عن أجيرك الذي في السوق. الشاب." ارتبك الرجل أكثر. عندها، أخرج عمر من جيبه قبضة من ذلك التمر الرديء، ووضعها على المنضدة بينهما. كانت القبضة تتحدث من أي خطبة.
انكسر الرجل. اعترف. قال إنه كان يخسر مالاً في التمر القديم، ففكر في هذه الحيلة. كان يظن أن هذا مجرد "ذكاء في التجارة". نظر عمر إليه نظرة طويلة، نظرة القاضي الذي يزن الروح قبل أن يزن الجرم.
القرار الذي لم يكن في القانون
قال عمر للرجل الغني: “الخسارة في المال تُقاس بالدرهم والدينار. لكن الخسارة في الأمانة تُقاس بالدين والنار. أتعلم ماذا كاد أن يحدث؟ كاد أن يضيع هذا الشاب بين ظلمك، وغضبي أنا. كنت سأجلده حدّ الغشّ، وربما سجنتُه. وكل المدينة كانت ستشتم اسمه. كل هذا لتحفظ أنتَ بضعة دراهم؟”
كان الصمت ثقيلاً. ثم أصدر عمر حكمه، حكماً عميقاً كبئر:
1. دفع أجرة الشاب المتأخرة فوراً، وزيادة عليها تعويضاً عن التهديد.
2. التمر الرديء كله يؤخذ منه ويُوزع على فقراء الحي، ولا يحق له بيعه.
3. يذهب الرجل مع عمر إلى السوق، ويعلن أمام الناس أنه هو الذي أمر بالغش، ليُبْرئ ساحة أجيره.
لكن القرار الرابع كان الأهم. نظر عمر إلى الشاب وقال: “أنت لا تعود للعمل عنده. أعطيك رأس مال من بيت المال، تبدأ به تجارتك الخاصة. صغيراً، لكنها تكون لك، ويَزْكُو فيها رزقك إن شاء الله.”
دروس في الزقاق الضيق
خرجوا من الدار. نَفَّذ الرجل الغني كل ما أُمِرَ به. كان اعترافه أمام الناس في السوق أقسى عليه من ضربة سوط. أما الشاب، فكانت الدنيا تُعاد صنعها أمام عينيه.
في المساء، بينما كان عمر في مصلاه، تأمل الدرس. العدل ليس مجرد عقوبة. العدل الحقيقي هو أن تبحث عن "لماذا" قبل أن تُصدر "ماذا". هو أن ترى الإنسان خلف الخطيئة، والحاجة خلف الجريمة، واليأس خلف الذنب. قصة بائع التمر لم تكن عن الغش، بل كانت عن الخوف والفقر والسلطة. وكان دور الحاكم أن يصلح الخلل من جذوره، لا أن يقطع الأوراق الذابلة فقط.
في تلك الليلة، كتب عمر تعليمات إلى عماله في الأمصار: “إذا أتاك أمر فيه تجاوز، فابحث عن علته. فقد يكون الجائع لصاً، والخائف غاشاً، والمظلوم ثائراً. أصلح العلّة، تُصلح الفعل.”