الامام المتحدث القعنبي

الامام المتحدث القعنبي

Rating 5 out of 5.
2 reviews

 

القعنبي في شبابه: من لهو الدنيا إلى مجالس العلم

 

حين نقرأ في سير السلف نجد أنفسنا أمام قصص تبعث الأمل، وتفتح باب الرجاء مهما كان ماضي الإنسان مثقلاً بالأخطاء. ومن أبرز تلك القصص قصة العلّامة القعنبي – عبد الله بن مسلمة القعنبي – الذي كان في شبابه بعيدًا عن طريق الاستقامة، غارقًا في لهو الدنيا، ثم بدّل الله حاله فصار من كبار العلماء، وواحدًا من أوثق رواة الحديث النبوي الشريف.

بدايات القعنبي: حياة لهو وطيش

وُلد القعنبي في بيئة فيها ما فيها من مجالس الشراب والهوى، وكان شابًا قويًا جريئًا لا يعرف للجدية طريقًا. ذُكر في سيرته أنه كان يقضي أوقاته في اللهو مع أقرانه، يلبس أحسن الثياب، ويجلس في المقاهي ومجالس السمر، حتى اشتهر في بلده بأنه من أهل المجون. لم يكن يفكر في العلم ولا في الدين، بل كان مشغولًا بدنيا زائلة، لا يرى أبعد من لذة اللحظة التي يعيشها.

كان الناس يذكرونه كشاب طائش، يعيش للمتعة والضحك، ولا يخطر في بال أحد أن هذا الشاب سيصبح يومًا ما من كبار رواة "الموطأ" وأحد أئمة الحديث. وهنا يظهر عظيم قدرة الله في هداية من يشاء، كيف يخرج من قلبٍ غارق في الغفلة نورًا يضيء طريق أجيال.

لقاء غيّر مسار الحياة

المفاتيح الكبرى في حياة القعنبي بدأت بلقاء عابر غيّر وجهته إلى الأبد. فقد كان القعنبي جالسًا مع رفاقه في مجلس لهو، حين مرَّ رجل من أهل العلم، فقال له القعنبي ما اعتاد أن يقوله الطائشون: كلمة سخرية أو استهزاء. عندها التفت العالم إليه وقال له جملة هزّت أعماقه:

“يا هذا، ما هكذا يكون الشاب، إنما الشاب من شغله العلم والقرآن.”

كانت الكلمات بسيطة، لكنها اخترقت قلب القعنبي. عاد إلى نفسه متسائلًا: "إلى متى سأبقى هكذا؟ ما الذي سأتركه بعد موتي؟ وهل خُلقنا للهو والشراب فقط؟" لقد شعر لأول مرة أن حياته ضائعة، وأن أيامه تذوب بلا معنى.

بداية التحول: الرحلة إلى مالك

بعد هذا الموقف، بدأ القعنبي يبحث عن طريق مختلف. سمع أن الإمام مالك بن أنس في المدينة يدرّس "الموطأ"، وهو الكتاب الذي صار فيما بعد من أعظم كتب الإسلام. فقرر أن يترك حياة اللهو، ويتجه في رحلة علمية قد تغيّر مصيره.

تخيل معي المشهد: شاب كان بالأمس في مجالس الشراب، يلبس أفخر الثياب، ثم هو اليوم يحمل نفسه على السفر الطويل، قاصدًا مجلس إمام دار الهجرة ليجلس بين يدي العلماء. لم يكن الطريق سهلًا، فقد واجه صراعًا داخليًا بين شهوة الماضي ونور المستقبل، لكنه صبر ومضى بعزيمة.

أول لقاء مع الإمام مالك

حين وصل القعنبي إلى المدينة دخل مجلس الإمام مالك، فرآه مهيبًا، تحيط به هيبة العلم ووقار الدين. جلس منصتًا، فإذا بالكلمات تدخل قلبه كما لم يفعل أي شيء من قبل. شعر أن هذا هو المكان الذي كان يبحث عنه منذ زمن، وأنه أخيرًا وجد ما يُحيي قلبه.

بدأ يلازم الإمام مالك ملازمة تامة، يسمع منه، ويكتب عنه، ويتأثر بسمته وأخلاقه. وما هي إلا سنوات حتى صار القعنبي من أوثق رواة "الموطأ"، يحفظه وينقله بدقة، حتى صار له شأن عظيم بين المحدثين.

من لهو إلى إمامة

القعنبي لم يكن مجرد طالب علم عادي، بل أصبح من كبار رواة الحديث، وروى عنه الأئمة الكبار مثل البخاري ومسلم وأبو داود. تخيل أن نفس الشاب الذي كان يقضي وقته في اللهو صار حلقة وصل في نقل كلام النبي ﷺ إلى الأمة كلها.

هذه النقلة المدهشة جعلت كثيرين يعتبرون قصة القعنبي درسًا عظيمًا في التوبة والهداية. فالله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى ماضي العبد بقدر ما ينظر إلى صدق توبته وإقباله.

دروس من قصة القعنبي

قصة القعنبي تحمل لنا رسائل عديدة:

1. الأمل مفتوح دائمًا: مهما ابتعد الإنسان عن الله، فباب التوبة لا يُغلق.

2. كلمة قد تغيّر حياة: لم تكن خطبة طويلة ولا وعظًا معقدًا، مجرد جملة صادقة من عالم أيقظت قلب شاب غافل.

3. العلم طريق النور: انتقال القعنبي من اللهو إلى العلم يبين أن طلب العلم الشرعي هو الذي يُهذب النفس ويُخرج الإنسان من الظلام.

4. العبرة بالخواتيم: قد يبدأ الإنسان حياته في طريق باطل، لكن ما يهم هو كيف يختم حياته.

خاتمة

قصة القعنبي ليست مجرد حكاية تاريخية، بل هي رسالة حيّة لكل شاب في زمننا. قد تظن أن ماضيك يحول بينك وبين طريق الخير، لكن الحقيقة أن الله قادر أن يقلب موازين حياتك كما فعل مع القعنبي .

image about الامام المتحدث القعنبي

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

5

followings

18

followings

6

similar articles
-