النسيان.. داء ودواء كشف أسرار ذكر الله عند غياب الذاكرة
سر العلاقة بين الذكر والتذكر تأملات في قوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت"
قال الله تعالى: ﴿وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدًا﴾ [سورة الكهف: الآية 24] هو توجيه قرآني عظيم يربط بين النسيان وذكر الله تعالى، ويحمل في طياته أسرارًا روحية ونفسية.
🕋 الشرح المفصل لقوله تعالى: ﴿وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾
تأتي هذه الآية في سياق قصة أهل الكهف، وقبلها توجيه للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم القطع على فعل شيء في المستقبل إلا بربطه بمشيئة الله (قول: إن شاء الله).
1. السياق المباشر (تفسير الجمهور):
يرى جمهور المفسرين أن معنى الآية يتعلق مباشرة بالآية التي سبقتها:
﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: 23-24]
* المعنى: إذا نسيت أن تقول "إن شاء الله" عند العزم على فعل شيء في المستقبل، ثم تذكرت أنك لم تقلْها بعد فترة (سواء كانت قصيرة أو طويلة)، فقلها حين تذكر.
* الدلالة: الله تعالى بفضله، جعل ذكر المشيئة (الاستثناء) صحيحًا ومقبولًا حتى لو جاء منفصلًا عن الكلام الذي وُجِّه إليه، ما دامت النية حاضرة، وهذا تخفيف وتوسعة من الله تعالى لعباده.
2. التفسير الأعم والأشمل:
هناك معنى أعم وأشمل يتفق عليه العلماء وينسجم مع عموم الشريعة:
* واذكر ربك: أي اجعل الله حاضراً في قلبك ولسانك بأي نوع من الذكر (تسبيح، تهليل، دعاء، استغفار).
* إذا نسيت: سواء نسيت قول "إن شاء الله"، أو نسيت أمرًا دنيويًا (مكان مفتاح، اسم شخص، معلومة)، أو نسيت أمرًا دينيًا (كصلاة، أو ورد من الأذكار).
* المقصد: عندما يغيب عنك شيء، أو يغلبك النسيان (وهو من طبيعة البشر)، فالجأ إلى المذكِّر الأعظم وهو الله تعالى.
* ﴿وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدًا﴾: هذا دعاء عظيم يُختتم به الأمر. الرشد هو الهداية والصواب. أي: اذكر ربك وادعه أن يوجهك إلى أقرب طريق للصواب وإلى تذكّر ما نسيته، وإلى إصلاح ما فاتك.
✨ سر ذكر الله عند النسيان
الربط بين النسيان وذكر الله يحمل أسرارًا روحية وعلمية عميقة:
1. السر الروحي (الاستعانة بالمذكِّر):
* مقاومة وساوس الشيطان: ورد في القرآن أن الشيطان هو سبب الإنساء (إيقاع النسيان) في مواقف معينة، كما قال فتى موسى عليه السلام: ﴿وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥ﴾ [الكهف: 63]. فذكر الله هو ملاذ العبد وطارد للشيطان، وإذا ذهب المسبب (الشيطان)، عاد التذكّر بإذن الله.
* الاعتراف بالعجز والتوكل: النسيان دليل على ضعف الإنسان وحاجته. فعندما يذكر العبد ربه، فهو يعترف بعجزه ويلجأ إلى العليم القدير الذي لا ينسى، طالباً منه العون لإصلاح الخلل.
* جلب الرشد والهداية: الذكر يفتح على القلب، فإذا كان القلب متصلاً بالله، نال الهداية والرشد (الصواب في الأمر)، سواء كان الرشد هو تذكّر المعلومة المنسية، أو إلهام العبد إلى بديل أفضل.
2. السر النفسي والعقلي (التركيز الذهني):
* الهدوء والتركيز: عندما يغلب النسيان، يدخل الذهن في حالة من التشتت والتوتر بحثًا عن المعلومة المفقودة. ذكر الله (مثل قول: سبحان الله، لا إله إلا الله، أو الدعاء) يعمل كـ "فاصل" يُهدئ من روع النفس ويُعيد ترتيب الفكر.
* كسر حلقة التوتر: يرى علماء النفس أن الإصرار العنيف على التذكر يزيد من التوتر ويعيق استرجاع المعلومة. الذكر يمثل انتقالاً إراديًا للذهن من التفكير القسري إلى الهدوء والصلة الروحية، مما يسمح للذاكرة بالعمل بشكل طبيعي وسهل، فتظهر المعلومة وكأنها "هبطت" على القلب.
* تغذية القلب: الذكر يحيي القلب ويجعل الذاكرة أكثر صفاء وقوة، ولذلك قيل: "ذكر الله دواء، والغفلة داء".
خلاصة:
قوله تعالى ﴿وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ هو قاعدة عظيمة في الإسلام: لا تستسلم للنسيان أو التشتت، بل استعن بالخالق، فهو المذكر والمعين على الرشد، سواء كان ذلك لتعويض نسيان "إن شاء الله" أو لتذكّر أي أمر دنيوي أو ديني 