تعلم فن الشكوى
اشتاق زكريا -عليه السلام- للولد الذي يحفظ عنه ميراث النبوة، ويحكم بشريعة الله بين العباد، فقد كَبُرَ زكريا واشتعل رأسه شيبا، وخشي أن يموت دون أن يرث أحد نبوته وعلمه لا ماله، فالأنبياء لا يُورثون المال فما تركوا فهو صدقة، مصداق قول الحبيب-صلى الله عليه وسلم-( لا نورث ما تركنا فهو صدقة) أخرجه مسلم.
هنا قام العبد الصالح يناجي ربه بصوت خفي، لا يسمعه إلا من وسع سمعه كل شيء، وبدأ يشكي حاله لمن يسمع الشكوى، ويَفُك البلوى.
لم يذهب زكريا -عليه السلام-إلى فلان من الناس ليشكي حالَه وكِبَر سنه، وقلة حيلته، ولم يبحث عن أفضل الأطباء للعقم والإنجاب، اختصر الطريق واتجه إلى من بيده الدواء والطب والتدبير، قال تعالى مبينا حال زكريا-عليه السلام-: ( ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً) مريم:2-5، فنلاحظ أن زكريا-عليه السلام- ناجى ربه واشتكى إليه حاله ثم بدأ بالدعاء بعد ذلك، تعلَّم زكريا-عليه السلام- فن الشكوى، فأخذ يجر خطاه إلى محرابه، وقد أُثقِل قلبه بالهموم، فنادى ربه نداء صادقا نابعا من قلب موقن بتدبير الله وقدرته، فشكى وَهن عظمه، وكثرة شيبه، وعقم زوجته، وكبر سنها، واشتياقه لرائحة الولد، بثَّ شكواه إلى من بيده مقاليد كل شيء، فأتت البُشرى تُزف إليه وهو في حال عباده وصلاة (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) آل عمران:39، يالله ما أجمل البشرى من الله (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ)، من تعلم فن الشكوى إلى الله والانطراح بين يديه فلن يخيب أبدا، من امتلأ قلبه يقينا بالله فلن يخذل أبدا، فدع عنك الشكوى إلى الخلق، وأطلق العنان لنفسك في الشكوى إلى الخالق فسترى عجبا.
حينما أتت البشرى لزكريا -عليه السلام-(أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) تعجب وقال: ( رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً) مريم:8، فمن جميع الجوانب حسيا وعقليا وطبيا يمنع ويستبعد أن يحصل هذا، وعقل الإنسان القاصر يرفض أن يكون هذا مع اجتماع الموانع من زكريا-عليه السلام- وزوجته، فأتت الإجابة من الذي لا يعجزه شيء ( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) مريم:9، هو أمر صعب في أعين البشر، لكنه هين على من رفع السماء بلا عمد، هو مستحيل في عقول البشر ولكنه هين على من ذرأَ الخلق بلا عدد.
(هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) لو عقلها القلب واستشعرها الفؤاد لهانت الصعاب ثقة بالله تعالى.
(هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) رسالة تنهمر على القلب الجريح كالماء الزلال تمحو كل وجع وحزن فيه، أتحزن والله معك؟!! كيف يكون هذا؟! فلا يجتمع الحزن واستشعار معية الله ( لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معَنَا) التوبة:40.
(هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) فلا صعب مع الله، ولا مستحيل مع وجود الله.
(هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) بشارة لكل محروم، لكل مكروب، لكل من امتلأ قلبه هما وكمدا.
قد يتساءل البعض كيف تكون الشكوى لله؟
تكون مثلما تشتكي لصديقك، لأخيك، وتبث له همومكـ فتشتكي له من هم أوجع قلبك، أو مدير أغلظ القول معك، أو مشكلة أرهقت تفكيرك، غَيّر مسار الشكوى وتوجه إلى مصلاك واملأ قلبك باليقين، وبث شكواك لله بلا تنمق ولا تصنع ولا سجع ولا ترتيب للكلمات والأحرف، فالله يسمعك ولن يخيبك أبدا، (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) المجادلة:1، وقال العبد الصابر يعقوب -عليه السلام- حينما ابتلي بفقدان فلذة كبده( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) يوسف:86، فسمع الله شكواه وردَّ عليه بصره، ولَمَّ شمل العائلة، وقرَّ عينه بولده وجمعه به بعد أن هيأ ليوسف-عليه السلام- في الأرض وجعل له منصبا مرموقا.
ابعث شكواك لربك وسيدهشك العطاء منه سبحانه، وتعلّم فن الشكوى إلى الله، وأطلق لنفسك العنان في شكواك لربك، وانتظر بيقين (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ).