الرزق بيد الله وعلى الإنسان السعي والأخذ بالأسباب
إن أكثر ما يشغل بال أغلب البشر في كل زمان ومكان هي قضية الرزق؛ فالكل يقلق بشأن رزقه، ويخاف الفقر والجوع، وجميع من يسرقون ويرتشون ويأكلون مال الأيتام ويمنعون الوارث من ميراثه إنما يفعلون ذلك طمعًا وخوفًا على الأرزاق..
ولا يزال هذا القلق على الأرزاق يؤرق الناس حتى يلجأ بعض ضعاف الإيمان إلى تجاوز حدود الحلال وطلب أرزاقهم من السبل المحرمة، وهذا ما حذَّر منه رسول الله -صل الله عليه وسلم- حين قال:
"أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)،
وعند ابن حبان:
"لا تستبطئوا الرزق، فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب؛ أخذ الحلال وترك الحرام".
ومهما سعى الإنسان في طلب رزقه من الحلال ومن الحرام، ومهما اجتهد وتعب وكافح ... فإنه لن يحصل من الرزق إلا بالمقدار الذي قد كتبه الله -تعالى- له، لا أقل ولا أكثر مثقال ذرة.
ولو أدرك الإنسان أن الله -عز وجل- قد فرض له رزقه وهو ما يزال جنينًا في بطن أمه، لارتاح قلبه، ولما جاوز الحلال إلى الحرام،
فعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله -صل الله عليه وسلم- قال:
"إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكًا بأربع كلمات، فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح"(متفق عليه).
فرزقك -يا ابن آدم- مكتوب محدد مقدَّر، يبحث عنك ويطلبك حتى يدركك.. ففيما القلق وفيما التنازع وفيما الانشغال والغفلة عن الآخرة...
هكذا تشتعل أزمة الرزق في قلوب الخلق أجمعين، اللهم إلا المسلمين المؤمنين الموقنين بموعود الله -عز وجل-:
(وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)[الذاريات: 22-23]،
وموعوده: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود: 6]،
وموعوده: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ)[العنكبوت: 60]،
لذا فإنهم مطمئنون واثقون في رزق الله -تعالى- لهم.
وكيف لا يطمئنون ورزق المرء يبحث عنه ويطلبه حتى يدركه لا محالة،
تمامًا كما يصنع الموت، بحيث لو حاول أن يفر من رزقه ويختبئ منه لما استطاع،
فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صل الله عليه وسلم-:
"لو فر أحدكم من رزقه لأدركه كما يدركه الموت"(رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وحسنه الألباني)،
ولقد رواه أبو الدرداء عن رسول الله -صل الله عليه وسلم- بلفظ:
"إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله"
(رواه ابن حبان، وصححه الألباني لغيره).
لكن؛ هذا التوكل لا ينبغي أبدًا أن يمنع الإنسان من الأخذ بالأسباب والسعي في طلب الأرزاق وإلا صار تواكلًا مذمومًا لا توكلًا محمودًا،
فإن الذي تكفل بالأرزاق -سبحانه وتعالى- هو الذي قال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)[الملك: 15]
وقد حفظنا من كلام رسول الله -صل الله عليه وسلـم-:
"لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانًا"(ابن ماجه، وصححه الألباني)؛ فها هي الطيور مع ضعفها تغدو وتروح وتأخذ بأسباب الرزق، ولم تجلس في أوكارها وتتمناه بل تسعى إليه.
وإذا ذُكرت كلمة: "رزق" انصرفت الأذهان إلى المال بشتى أصنافه، ولكن الحق أن المال نوع من أنواع الرزق، وليس كل الرزق؛ فإن الصحة رزق،
والأولاد رزق،
والزوجة رزق،
والذكاء رزق،
والجمال والوسامة رزق،
والقبول عند الناس وحبهم رزق،
وطاعة الله رزق،
وانشراح الصدر وراحة البال رزق،
وحسن الخاتمة وقول: "لا إله إلا الله" عند الموت رزق...
وصدق الله -عز وجل- إذ يقول:
(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
[العنكبوت: 62].
اللّهم إن كان رزقي في السماء فأنزله، وإن كان رزقي في الأرض فأخرجه، وإن كان بعيداً فقرّبه، وإن كان قريباً فيسّره، وإن كان كثيراً فبارك فيه يا أرحم الراحمين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، واكفني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمّن سواك يا إله العالمين، وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.