النبي الملك: سيرة سيدنا سليمان عليه السلام

النبي الملك: سيرة سيدنا سليمان عليه السلام

0 المراجعات

النبي الملك: سيرة سيدنا سليمان عليه السلام

 

في سجلات التاريخ الديني والإنساني، تبرز شخصيات استثنائية حباها الله بمكانة فريدة، ومن بين هؤلاء يسطع نجم نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، الذي لم يكن نبيًا ورسولًا فحسب، بل كان ملكًا عظيمًا لم يؤتَ أحدٌ مثل ملكه من قبله ولا من بعده. قصة سيدنا سليمان، كما يرويها القرآن الكريم وتتناقلها كتب التاريخ والتراث، هي ملحمة زاخرة بالحكمة والمعجزات والقوة التي سُخرت في سبيل الله والدعوة إلى توحيده.

 

النشأة في بيت النبوة والملك

 

وُلد سليمان عليه السلام في بيت عز وشرف، فأبوه هو نبي الله داود عليه السلام، الذي كان أيضًا ملكًا على بني إسرائيل. نشأ سليمان في كنف أبيه، وتشرّب منه الحكمة والعلم والتقوى. ورث عن أبيه النبوة والملك، فاجتمع له ما لم يجتمع لكثيرين، فكان نبيًا ملكًا، وقاضيًا حكيمًا، وقائدًا فذًا. يذكر القرآن الكريم هذا الإرث العظيم في قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ (النمل: 16).

ظهرت حكمة سليمان وفطنته منذ صغره، ومن أشهر القصص التي تدل على ذلك قصة حكمه في قضية الغنم التي نفشت في زرع قوم. فحينما عرضت القضية على أبيه داود، حكم بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم تعويضًا له. لكن سليمان، الفتى الصغير آنذاك، رأى حكمًا أكثر عدلاً وإنصافًا، فاقترح أن يأخذ صاحب الزرع الغنم لينتفع بألبانها وأصوافها، بينما يقوم صاحب الغنم بإصلاح الزرع حتى يعود إلى حالته الأولى، ثم يسترد كل منهما ماله. أعجب داود عليه السلام بحكمة ابنه، وأمضى حكمه، وكان ذلك دليلاً مبكرًا على ما ينتظر هذا النبي من شأن عظيم.

 

ملك لا ينبغي لأحد من بعده

 

كان ملك سيدنا سليمان فريدًا من نوعه، لم يسبقه إليه أحد ولم يلحقه به أحد. فقد دعا سليمان ربه دعاءً خالصًا ومحددًا: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ (ص: 35). واستجاب الله لدعائه، فوهبه ملكًا عظيمًا وسخر له من الإمكانيات ما يفوق تصور البشر.

تسخير الريح: من أعظم ما مُنح سليمان عليه السلام هو قدرته على التحكم بالريح. كانت الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب، تنقله وجنوده مسيرة شهر في غدوة واحدة، ومسيرة شهر في روحة واحدة. كانت هذه المعجزة وسيلة نقل سريعة ومدهشة، مكنته من إدارة مملكته المترامية الأطراف بكفاءة وسرعة لا مثيل لهما.

تسخير الجن والشياطين: سخر الله لسليمان عليه السلام عالم الجن، فكانوا يعملون بين يديه بأمر ربه. كانوا يبنون له ما يشاء من الصروح الشاهقة والمحاريب والقصور، ويصنعون له التماثيل والجفان الكبيرة التي تشبه الأحواض، والقدور الراسيات. وكانوا يغوصون في البحار يستخرجون له اللآلئ والجواهر. ومن يعصِ منهم أمر سليمان، كان له عذاب شديد. هذا التسخير للجن كان علامة فارقة في ملكه، ودليلاً على قوته التي وهبها الله له.

فهم لغة الحيوان والطير: كانت معجزة أخرى خص الله بها سليمان، وهي فهمه لمنطق الطير وكلام الحيوانات. لم تكن هذه القدرة مجرد ميزة، بل كانت أداة من أدوات إدارته وحكمته. فمن خلالها، استطاع أن يتواصل مع مخلوقات الله الأخرى، وأن يستخلص منها العبر والدروس، كما حدث في قصته الشهيرة مع النملة والهدهد.

 

قصص من مملكة سليمان

 

تزخر سيرة سيدنا سليمان بقصص عجيبة تظهر عظمة ملكه وحكمته وعدله، وتكشف عن جوانب من شخصيته كقائد ونبي وإنسان.

قصة وادي النمل: في إحدى مسيراته بجيشه الجرار المكون من الإنس والجن والطير، مر سليمان عليه السلام بوادٍ للنمل. وهناك، سمع نملة تنادي على قومها قائلة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (النمل: 18). فما كان من سليمان النبي الرحيم إلا أن ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ (النمل: 19). تظهر هذه القصة مدى تواضع سليمان وشكره لنعم الله عليه، ورحمته التي شملت حتى أصغر المخلوقات، ودقة تنظيمه لجيشه الذي أدركت النملة أنه لن يحطمهم عن عمد.

قصة الهدهد وملكة سبأ: تعد هذه القصة من أروع قصص القرآن الكريم، وهي تجسد حكمة سليمان الدبلوماسية والدعوية، وقوة حجته. تبدأ القصة بتفقد سليمان لجيشه من الطير، فيلاحظ غياب الهدهد. توعده بالعذاب الشديد أو الذبح إن لم يأته بسبب واضح لغيابه. وبعد قليل، حضر الهدهد وهو يحمل خبرًا يقينًا من مملكة سبأ في اليمن.

أخبر الهدهد سليمان بأنه وجد امرأة تملكهم، وهي الملكة بلقيس، وقد أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، لكنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله. لم يتسرع سليمان في تصديق الخبر أو تكذيبه، بل قرر أن يختبر صدق الهدهد، فأرسل معه رسالة إلى ملكة سبأ، يدعوها فيها وقومها إلى الله الواحد الأحد.

كانت الرسالة موجزة وقوية: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ (النمل: 30-31). أظهرت بلقيس حكمة كبيرة، فشاورت قومها، الذين أبدوا استعدادهم للحرب، لكنها فضلت الحل السلمي والدبلوماسي. أرسلت هدية إلى سليمان لتختبره، أهو نبي أم ملك يسعى إلى الدنيا؟

رفض سليمان الهدية، مظهرًا أن ما آتاه الله خير وأبقى، وأعلمها أنه سيرسل إليهم جنودًا لا قبل لهم بها. أدركت بلقيس قوة سليمان وأنه ليس مجرد ملك، فقررت أن تأتي إليه مسلمة.

وهنا، أراد سليمان أن يريها آية أخرى من آيات ملكه ونبوته. سأل من في مجلسه: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ (النمل: 38). فقال عفريت من الجن أنه سيأتيه به قبل أن يقوم من مقامه، ولكن الذي كان عنده علم من الكتاب (قيل هو سليمان نفسه أو أحد جلسائه الصالحين) قال إنه سيأتيه به قبل أن يرتد إليه طرفه. وبالفعل، استقر العرش أمامه في لمح البصر.

وعندما وصلت بلقيس، هيأ لها سليمان استقبالاً خاصًا، حيث أمر ببناء صرح ممرد من قوارير شفافة تجري من تحته المياه. فلما رأته، حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، فأخبرها سليمان أنه صرح أملس من زجاج. وعندما رأت هذه المعجزات، وعظمة الملك، وقوة الحجة، أعلنت إسلامها لله رب العالمين مع سليمان.

 

بناء بيت المقدس والفتنة والوفاة

 

كان من أعظم أعمال سيدنا سليمان العمرانية هو إتمام بناء بيت المقدس (المسجد الأقصى)، الذي كان قد بدأه أبوه داود عليهما السلام. سخر له الجن في هذا العمل الجليل، فبنوا له صرحًا عظيمًا ليكون مكانًا لعبادة الله.

ورغم كل ما أوتي من ملك ونبوة، فقد تعرض سيدنا سليمان للفتنة والابتلاء، كما ذكر القرآن في قوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ (ص: 34). تختلف تفاسير هذه الآية، ولكنها في مجملها تشير إلى ابتلاء مر به سليمان، تعلم منه درسًا ثم تاب وعاد إلى الله، وكان من أعقابه دعاؤه الشهير بأن يهبه الله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده.

أما وفاة سيدنا سليمان فكانت آية بحد ذاتها، وحكمة بالغة أرادها الله ليكشف حقيقة غيبية. كان سليمان قد عهد إلى الجن بأعمال شاقة، ولكي يضمن استمرارهم في العمل دون أن يعلموا بوفاته، وقف متكئًا على عصاه (منسأته) في محرابه يراقبهم. وقبض الله روحه وهو على تلك الحال، فبقي على هيئته زمنًا طويلاً، والجن يعملون لا يشكون في حياته، خوفًا من بطشه.

ولم يدلهم على موته إلا دابة الأرض، وهي حشرة الأرضة (النمل الأبيض)، التي أخذت تأكل عصاه الخشبية من الداخل شيئًا فشيئًا. فلما نخرتها العصا، لم تعد تقوى على حمل جسده الشريف، فخر ساقطًا على الأرض. عندها فقط، علمت الجن والإنس بموته. يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ (سبأ: 14).

وهكذا، كانت وفاة سليمان عليه السلام برهانًا عمليًا قاطعًا على أن الجن، رغم قوتهم وقدراتهم الخارقة، لا يعلمون الغيب الذي استأثر الله بعلمه.

 

خاتمة: النبي الشاكر

 

عاش سيدنا سليمان عليه السلام حياة حافلة بالمعجزات والملك والسلطان، ولكنه لم ينسَ قط أنه عبد لله. كان دائم الشكر والذكر، يسبح بحمد ربه، ويدعوه في كل أحواله. لقد استخدم كل ما أوتي من قوة ونفوذ في سبيل نشر دعوة التوحيد وإقامة العدل بين الناس.

تظل قصة سيدنا سليمان مصدر إلهام وعبرة للأجيال، فهي تعلمنا أن الملك الحقيقي هو في طاعة الله، وأن القوة الحقيقية هي التي تسخر للخير والحق. وتعلمنا أيضًا درسًا في التواضع والشكر، فمهما بلغ الإنسان من علم وسلطان، يبقى فقيرًا إلى رحمة الله وعونه، وأن كل ما في هذا الكون، من إنسان وحيوان وريح وجن، هم جنود في ملكوت الله الواسع، يسيرهم كيف يشاء، لحكمة يعلمها.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

4

متابعهم

0

متابعهم

0

مقالات مشابة