الصحابي خُبيب بن عدي .. دروس وعظات
خطبة جمعة بعنوان
الصحابي خُبيب بن عدي
دروس وعظات
أما بعد احبتي الكــرام :
مع قصةٍ جديدة لصحابي جليل وفي بستان من بساتين الصادقين الأوائل اليانعة، نعيش اليوم لنرى ونعلم كيف اعزهم الله، واعزّ بهم الاسلام في كل مكان ..
وهل قرأتم قصص المغامرات ؟
وهل سمعتم بحكايا التضحيات !
وهل مرّ عليكم روايات الفداء والبطولات .!؟
حيث وإن اغلب ما يتداوله النّاس اليوم من القصص والأخبار لاتعدُ ان تكون ملفقةً من عقل ذاك القاص، او إنشاء ذلك الروائي، او فكر ذاك المؤرخ فيشوبها الكذب والتكلّف والتهويل والتضليل ليشتروا بها ثمناً قليلا .!
أمّا قصةُ اليوم، وقصةُ بطلنا اليوم ففيها بطولةٌ نادرة، وبسالةٌ فذه، وشجاعةٌ عجيبة، وتضحيةُ صادقةٌ عظيمة، وفدائيةٌ قاهرةٌ كبيرة.
إنّها صورةٌ تحمل الصدق المتين، والثبات المنقطع، والهمّة الحيّة، والإيمان الراسخ، والعقيدة الصلبة.
إنّه مشهد ولاء لكنّه ليس ولاءً لعذراء، ولا لأجل متعة غناء، ولا إرضاءً لحزبٍ او جماعةٍ او قبيلة.! إنّما هي بطولة أسالت الدماء، ومزّقت الابدان، فلا وراءها في الدنيا عيشٌ ولا لذةٌ، ولا خلفها طيبُ إستقرار او بقاء ..
إنّها بطولةٌ نادرة قلّ ما تتكرر في الاعداد الهائلة من بشر اليوم .
إنّها بطولة في زمنَ تُلوعبَ فيه بمصطلح البطولة حيث حمله غير أهله، وانتسب له غير آله وربعه، وانتـم ترون كيف يُصنع اليوم من رموز الجبن والهوان أبطالاً صناديد، ومن أربابِ الخنا والفجور أعلاماً مشاهير ، ومن صنّاع السفاهة والطيش افذاذاً ميامين، ومن مشاهير الذل والصغار نجوماً مرتفعين .
فكيف ترضون ان يسمى الجبان بطلاً ، ويُنعتُ السفيه إماماً، ويُجعل الدنئ قائداً هُماماً ..
فما البطولة الحقة يا كرام ؟!
هل البطولة بالفتوة واستعراض العضلات ؟!
هل البطولة فيمن يهاب لسعة الزنبور ، ويخاف من ظلمةِ الليل، ولا يطيق العيش في الشدة والحر ، اويبكي على فوات الطعام والشراب واللذة اليسيرة الفانية .!
كلا والف كلا .! ليست هذه هي البطولة، إنّما البطولة الحقيقية هي إيمانك الصادق بالله تعالى، ونضالك عن الشريعة وثباتك على المبادئ الصادقة .
البطولة الحقيقية هي صدعك بالحق وصبرك على المكاره الشديدة، ألا وإنّ من اعظم صور البطولة بذل النفس والنفيس لمالكها الذي اشتراها من المؤمنين، وبيعُ الحياة الدنيا الفانية بالحياة الآخرة الباقية ..
ولهذا بطل جمعتنا اليوم الصحابي الجليل، والصابر المحتسب، والفدائي المؤمن دفينُ الملائكة ( خُبيب بن عدي رضي الله عنه وأرضاه )
كان رضي الله عنه بطلاً مقداماً، وفارساً شجاعاً، ومجاهداً صنديداً، وقارئاً ومعلماً، اراق دمه لله، ومزّق لحمه لأجل اعلاء كلمة الله، وقدم حياته نصرةً لشرع الله، لم يهبْ الموت، ولم يخشَ المنيّة، ولم يخفْ بطش اهله، ولاتهديد ولا وعيد أعداءه .
إشتاق المشركون لقتله واشتاق هو للشهادة في سبيل الله، وتعطش الكفار لسفك دمه وتعطش هو للقاء الله رب العالمين، واغتبط أعداءه ببشاعة مقتله واغتبط هو رضي الله عنه بالثبات والرجولة والصمود والفدائية.
أراد المشركون ان يسلبوه الإيمان، فسلبهم الأذهان بصدقة وشجاعتة وإيمانه وثباته وتفانيه لله رب العالمين .
( يُحِبُهُمْ وَيُحِبونَه أَذِلَةٍ عَلَىٰ الْمؤمِنِين أَعِزَةٍ عَلَىٰ الْكَافِرِين )
نصبه الأعداء للقتل والإعدام ظلماً وعدواناً، ونصب هو لهم سهام الدعوات الصادقات في عرصات البطولات وساحة التضحيات ..!
احبتي الكــرام :
كثيرٌ هم أولئك الذين يموتون باسبابٍ شتى، لكنّ التأريخ لا يكتب ولا يتحدث ولا يتكلم ولا يسطر إلاّ لمن مات مدافعاً عن دينه وعقيدته ..!
فما الذي حدث مع الصحابي خبيب بن عدي ؟ وكيف وقع في أيدي الظلمة والمجرمين .؟!
تعالوا معي سريعاً لنقف على الحدث ولنتعرف على جواب سؤالنا .!
ففي السنه الرابعة من الهجرة وفي شهر صفر تحديداً قَدِمَ على النبي صلى الله عليه وسلم قومٌ من عَضْل وقارَه ذكروا له ان فيهم إسلاماً، وانّهم يَودوا ان يتعلموا الكثير عن دين الاسلام، وطلبوا من الرسول الكريم ان يبعث معهم من يعلمهم الدين ويُقرأهم القرآن، فاختار لهم الرسول الكريم خيرة الرجال من القراء والمعلّمين، قيل كانوا ستة نفر ، وقيل كانوا عشرة من بينهم الصحابي خبيب بن عدي وأمّر عليهم مرثد بن ابي مرثد وقيل عاصم بن ثابت رضي الله عنهم اجمعين ..
فذهبوا معهم ولما وصلوا الى الرجيع وهو ماء لهُذيل استصرخوا وألبّوا عليهم حياً يقال له بنو حيان وغدروا بهم جهاراً نهاراً، هربوا الى مكان مرتفع فاقتفوا أثرهم، فقاتل منهم من قاتل حتى استشهد ومنهم قائدهم عاصم بن ثابت الذي رفض عرضهم بالنزول مقابل الأمان، ولم يبقى إلاّ خبيب وزيد بن الدِثنه فاعطوهم الأمان فنزلوا ولكنهم غدروا بهم وربطوهم، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة فأخذ بنو الحارث خبيباً لانه من قتل الحارث يوم بدر ولبث خبيب عندهم أسيراً .
تقول الجارية التي كانت تحرس خبيب : والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، فوالله لقد وجدته يوماً يأكلُ قِطفاً من عنب في يده وإنّه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول : إنّه لرزق رزقه الله خبيباً .
وبعد أيام اخرجوا خبيب الى التنعيم ليقتلوه فقال لهم " دعوني اصلي ركعتين، وكان اول من سنّ ركعتين قبل القتل ."
فتركوه فصلى ركعتين، ثم قال لهم : والله لولا ان تقولوا ان بي جزع لزدت، ثم رفع يديه الى ربه وقال : " اللهــم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولقهم الردى، ولا تغادر منهم أحداً "
وعلى إثر دعاء خبيب وخوفاً منه هرب حكيم بن حزام واختفى جبير بن مطعم وادخل حويطب يديه في أذنيه .
فأوثق المشركون رباطه ووجهوه الى قِبَل المدينة وقالوا له ارجع عن الاسلام نخلي سبيلك .!
فقال لهم في أنفةٍ وحزم : ما احب أني ارجع عن الاسلام ولو انّ لي مافي الارض جميعاً ..
قالوا له افتُحب أن محمداً في مكانك وانت جالس في بيتك ؟
فقال لهم : لا والله ما احبُّ ان يشاك محمد بشوكة وانا جالس في بيتي .!
قالوا له : أما واللات والعزى لئن لم تفعل لنقتلنّك .
فقال لهم : إنّ قتلي في الله لقليل، ثم قال :
اللهـم إنّي لا ارى إلاّ وجه عدو ، اللهم وإنّه ليس هنا من أحدٍ يبلغ رسولك عنّي السلام فبلغه انت عني السلام .
وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه فأخذته غميه كما كانت تأخذه ثم قال :
" وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ثم قال :
هذا جبريل يُقرأني من خبيب السلام .
احبتي الكــرام
تجمع الحاقدون والمجرمون من المشركين حول خبيب وهو على خشبة الإعدام وطعنوه برماحهم فاضطرب على الخشبة فانقلب وجهه الى القبله فقال : الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي ارتضاها لنفسه ولنبيه وللمؤمنين، ثمّ أخذ ينشد نشيده الخالد، ذلكم النشيد الذي يحفظه الأجيال ولا يزال يضرب فيه اروع الأمثلة في الثبات والصمود :
لقد جمع الأحزاب حولي وألَّبوا
قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهـم
وقُرِّبتُ من جذع طويل ممنعِ
وكلهم مبدي العداوة جاهداً
عليّ لأني في وثاقٍ بمضيعِ
وقد خيروني الكفر والموت دونه
وقد همَلَت عيناي من غير مجزعِ
إلى الله أشكو غربتي ثم كربـتي
وما أرصد الأعداءُ لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي
فقد قطعوا لحمي وقد يئس مطمعي
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً
على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشـأ
يبارك على أوصال شلو ممزَّعِ
وما بي حذارُ الموت إني لميـتٌ
ولكن حذاري جحم نار ملفَعِ
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بمافيه من الايات والذكر الحكيم واستغفروا الله لي ولكم من كل ذنب ويافوز المستغفرين ويانجاة التائبين ..
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :
أما بعـــــد ايها الأحباب الكرام :
إنّ في مثل قصة خبيب لذكرى للذاكرين، وعظةً للمتعظين، وما اجمل ان تُقرأ مثلُ هذه القصص على شبابنا وأبناءنا ليدركوا عظمة امتهم ومجدها ورجالها وتراثها، وليتعلموا عميق تضحيات ذلك الرعيل لأجل دينهم وامتهم .
ولئنّ لنا في كل قصة عظةً وعبرة فتعالوا لنتعرف على بعضٍ من دروس وعظات قصة خبيب وهي :
اولاً : انّ بطولات جند العقيدة أعظم البطولات واصدق التضحيات، وانّ البطولة الصحيحة والبسالة المذهلة التي تبدو من صحابة رسـول الله صلى الله عليه وسلم هي بطولات حقيقية صادقة ليست من نسج الخيال او أساطير لا اصل لها كما يعتبرها الجبناء في هذه الاعصار ، بل لن تجدوا في مآثر أمةٍ ومفاخرها مثل الذي سمعتم ورأيتم في ابطال المسلمين .
ثانياً : هوان الحياة ورخصها في عيونِ هؤلاء الشجعان، وانّ العاقل لا تلهيه زهرةُ الحياة الدنيا عن طلب الآخرة والسعي لها :
" مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الْدُنيَا وَزِنَتَهَا نُوفِ إِلْيهِمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ فِيْهَا لا يَبْخَسُون "
ثالثاً : الثبات على الحق والتضحية في سبيله مهما عظمت الكروب واشتدت الخطوب .
رابعاً : نقض العهود والمواثيق صفة ملازمةٌ وجذرية في طبع اليهود، فلا يعرفون عهداً ولا يؤمنون بميثاق ولا يلتزمون بوعد ..
خامساً : الشهادة وفضيلتها وأنّه لا يضاهيها متاعٌ ولا لذةٌ ولا زينةٌ من حطام الدنيا الفاني :
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169].
سادساً : عظيم حبّ الصحابه الاجلاء لرسولهم صلى الله عليه وسلم الذي فاق حبّ المال والوالد والولد، وقد يهون عليهم كل شئ مقابل ان لايصاب رسولهم بأذى او يشاك بشوكة .
( مُحَمدٌ رَسُـوْلُ اللهِ وَالَذِينَ مَعَهُ أَشْدَاءُ عَلىٰ الْكُفَارِ رُحَمَاءُ بَبيْنَهُمْ ....)
فرحمةُ اللهِ عليك يا خبيب، وسلامٌ عليك يوم ولدت، ويوم عشت، ويوم اسلمت، ويوم صبرت، ويوم ابتليت، والى الملتقى غداً في دار تجمع سلامة الابدان والأديان الـى جوار الأنبياءوالصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ..
(( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا ))