مــاذا يُعلمنا الإســراءُ والمعــراج
خطبـة جمعــة بعنـوان
مــاذا يُعلمنا الإســراءُ والمعــراج
ثم اما بعد ايها الأحباب الكرام:-
حادثةُ نتفيأ ضلالها هذه الايام، ونتفيأ ضلالها في كل عام، ويحتفي بذكراها المسلمون عاماً بعد عام..
يستلهمون منها الدروس، ويجنون منها العبر..
تذكرهم بسيرة خير البشرية محمدصلى الله عليه وسلم...
حادثة جعلها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم هدية، وللمؤمنين به إمتحاناً واختباراً وتمحيصاً.
إنّها ذكرى حادثة (الإسراء والمعراج).
تلك الذكرى التى لاتنقضي عبَرُها، ولا تفنى عضاتها...
إفتتح الله بها سورة من سور كتابه الكريم
فقال عزّ من قائلٍ عليم :
(سُبْحَانَ الَذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) الإسراء:1
فأبتدأت الآية الكريمة بتنزيه المولى عزوجل وبيان عظمته، ووصفت النبي صلى الله عليه وسلم بصفةِ العبودية لله، لتؤكد أنّ رعاية الله له شامله، وعنايته سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم مصاحبه.
ثمّ بينت الآية بعد ذلك السبب الرئيس من وقوعِ هذه الحادثة المباركة فقال سبحانه:
(( لِنُريَه مِن آيَاتِنَا ...))
لقد فتحت هذه الحادثة للنبي صلى الله عليه وسلم آفاقاً إيمانية فأزدادت معرفته بربه، وقوى يقينه بوعده..
فبعد أن كان في مكة وبين شعابها مُحَارَباً أذاه أهلها وسلطوا عليه السفهاء، هاهو يطّلع على العوالمِ الاخرى، ويرى الايآت الكبرى قال سبحانه في سورة النجم: (( لَقَد رَآى مِن آياتِ رَبِه الكُبْرى))
لقد جمعت هذه الحادثة دروساً إيمانية وفكرية وتربوية واجتماعية يستضيءُ بها المسلم فكراً وعملاً في أي وقتٍ وحين ..
إنّها تؤكد أنّ قدرة الله مطلقة، وأنّ الله لايعجزُه شيء، وما نواميس الكونِ إلاّ من صنعه وتدبيره سبحانه وتعالى، تمضى كما اراد وينقُضها متى شاء .
هذه حقيقة قررها القرآن الكريم في كثيرٍ من الآيات، يقول الله تعالى:
(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) يس:82
أيّها الأحباب الكرام:
إنّ العقل البشري ليس من السهلِ عليه أن يقتنع بهذه الحادثة وقد تعوّد خلافها في نواميسِ الكون
إذ كيف يسير رجلٌ من مكة الى بيتِ المقدس ويُعرَجُ به الى أعالي السموات ويرجع في بِضعِ ليلة.
ولكن !!!!
عندما يكون الخبر من الله، والأمر أمره، والخلق خلقه، والكون بمن فيه خاضعٌ لتدبيره ومشيئته
فإنّ المؤمن يقول كما قال سيدنا ابراهيم عليه السلام ((أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) البقرة:259
إنّه درسٌ من دروسُ الإيمان بالغيب، ذلك الركن الذي هو من أهم مقتضياتِ الإيمان.
فقد افتتح الله به صفات المؤمنين بأول سورةٍ بعد فاتحةِ الكتاب فقال سبحانه :
( الم *ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقون) البقرة: 1 : 3
ولهذا فقد كانت هذه الحادثةُ العظيمة إمتحاناً، واختباراً لذووي الإيمان، إمتحاناً لأهلِ الدين والعقيدةِ هل يُصدقون فوراً ؟ ام يترددون ويتلكؤن.
( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) العنكبوت : 2
وكما أنّ هذه الواقعة تزيد المؤمنين معرفةً بالله فهي كذلك تزيدهم معرفةً بنبيهم صلى الله عليه وسلم وترفع من قدره عندهم.
فقد أكرمه الله فيها أيُّما إكرام:
- فرفعه الى السمواتِ العلى.
- وأمَّ إخوانه الانبياء.
- ووصل الى حيثُ لم يصل مخلوقٌ قط.
فأكدت هذه الحادثة أنّ قدرَة عليه الصلاة والسلام عظيم، وأنّ منزلته سامية، وهذا تذكيرٌ للمؤمنين ودروسٌ للمناوئين والجاحدين والحاقدين .
ليزداد الذين أمنوا ايماناً، ويعلم المكذبون أنّهم يعادون عظيماً، ويسبون عظيماً، ويخالفون من له المكانة الرفيعة عند الله.
فلنعرف قدر نبينا يا ايها الكرام ولنُبين للعالمِ اجمع أنّه عظيم وأنّ دينه عظيم..
أيّها الأحباب
في هذه الحادثة الجليلة فُرضت علينا اعظم التشريعات العملية وأعلاها قدراً وأكثرها أهمية .
إنّها الصلاة ... التي شُرعت والنبي صلى الله عليه وسلم في السمواتِ العلى تشريعاً نظرياً وتطبيقاً عمليا.
فقد صلى المصطفى صلى الله عليه وسلم بإخوانه الانبياء إماماً وائتموا به جماعةً واحدة .
وفي هذا دليلٌ على علو ومكانة هذه الشعيرة ورفع منزلتها.
كيف لا .. وهي عمودُ الدين.
كيف لا .. وهي مقياسُ الإيمان.
وهي أول مايحاسب عنه العبد بين يدي الله.
من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين.
من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً من النّار يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولانجاةً يوم القيامة وحُشر مع قارون وفرعون وهامان وأبّي بن خلف.
وصانا النبي عليه الصلاه والسلام بها في آخر لحظات عمره فقال وهو على فراشِ الموت:
(( الصلاة .. الصلاة وما ملكت ايمانكم ))
نعم الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، وسيدة القربات، وغرة الطاعات، ومعراجُ المؤمن إلى ربِّ الأرض والسماوات ..
إنّها الركن الوحيد المتكرر من أركانِ الإسلام الذي لا يسقط بحال ..
إنّها أسُّ العبادات . وأصلُ القربات . ومبدأُ الطاعات . وهي ركن الأركان . وأساسُ البنيان ..
والصلاة التى أرادها الله تعالى، أجل وأعظم من أن تكون مجرد حركات وسكنات، وقراءات .
- إنّها قربٌ من الله تعالى :
﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [ سورة العلق الآية : 19 ]
- إنّها وعي .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾[ سورة النساء الآية : 43 ]
- إنّها عروج .. " الصلاة معراج المؤمن "..
ومع العروج مناجاة ..
فلو شاهدت عيناك من حُسننا الذي رأوه
لـما وليت عنـا لغيرنـا
ولو سـمعت أذناك حسن خطابـنا
لخلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولو ذقت من طعـم المحبـة ذرةً
لعذرت الذي أضحى معنَى بحبنا
ولـو لاح من أنـوارنا لك لائحٌ
لتركت جميـع الكائنات لأجلنـا
فمن جاءنـا طوعـاً رفعناه رتبةً
وعنه كشـفنا الهمً والغم والعنا
ومن حاد عنا ضل سـعيا ومذهبا
وباء بحرمـان ولم يبـلغ المنى
ولذلكم أيها الأحباب الكــرام:
الصلاةُ قربة - الصلاةُ خشوع - الصلاةُ وعي..
ولن تكون الصلاة قرباً، وخشوعاً، ووعياً، وعقلاً وعروجاً، ومناجاةً إلاّ إذا بُنيت على معرفةِ الله تعالى .
فكيف تذكر وتناجي من لا تعرفه ؟
ولن تكون الصلاة كذلك إلاّ إذا سبقتها استقامة على أمر الله، واتباعٌ لسنة نبيه .
فكيف تتقرب ممّن تعصي أمره ؟
لذلك تعد الصلاة ميزاناً دقيقاً لمستوى معرفتك بالله، ولمستوى عبادتك له .
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسند الإمام احمد (( مثل الصلاة المكتوبة كالميزان، فمن أوفى استوفى ))..
أي من أوفى صلاته شروطها استوفى منها ثمارها التي وعد الله بها ..
ولكن ما ثمارها التي وعد الله بها ؟؟
إنّها تطهر نفس المصلي، وتنهى صاحبها نهياً ذاتياً عن الفحشاءِ والمنكر على أساسِ الوازع الداخلي لا على أساسِ الرادع الخارجي .. قال تعالى :
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾[ سورة العنكبوت الآية : 45 ]
ايها الفضلاء
إنّ في الحياةِ شدائد وابتلاءات، ومحناً وصعوبات، يكون الانسان أحوج ما يكون فيها الى من يعينه عليها ويقف بجانبه فيها ويؤازره ويخفف عنه.
ولقد كانت حادثةُ الاسراء والمعراج للنبي صلى الله عليه وسلم تسليةً عن قلبه وتخفيفاً لآلآمه واحزانه.
نعم كانت حادثةُ الإسراء والمعراج مسحاً لجراحِ الماضي، وتثبيتاً لقلبِ النبي صلى الله عليه وسلم ..
وتطميناً على مستقبلِ الدعوة، وتعويضاً عن جفوةِ الأرض بحفاوةِ السماء، وعن قسوةِ عالم النّاس بتكريمِ الملأ الأعلى .
اللهم كما غسّلت أحزان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في ليلةِ الإسراء والمعراج نسألك ياربِ ان تُغسّل احزاننا وأحزان كل من نحب وكل من قال من آمين.
اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية :
أمّا ابعد :
ماذا يعلمنا الإسراء والمعراج ؟..
إنّ في الإسراءِ والمعراج دلالات كبرى، ومنارات جُلَى، ومواعظ بليغة، أكثر من أن تحصى وأجل من تستقصى !...
- إنّه يعلمنا أن الدنيا دار التواء، لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء ..
وأنّ الله تبارك وتعالى قد جعلها دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى ..
فجعل بلاء الدنيا لعطاءِ الآخرة سببا ..
وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا..
فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي ...
- إنّ الإسراء والمعراج يعلمنا أنّ للمحنِ والمصائب حكماً جليلة منها :-
- أنّها تسوق أصحابها إلى بابِ الله تعالى وتلبسهم رداء العبودية وتلجئهم إلى طلبِ العون من الله .
- إنّ الإسراء والمعراج يعلمنا أنّه لا ينبغي أن تصدنا المحن والعقبات عن متابعةِ السير في استقامةٍ وثبات .
- إنّ الإسراء والمعراج يعلمنا أنّه مادام الله هو الآمر فلا شك أنّه هو الضامن والحافظ والناصر .
- إنّ الإسراء والمعراج يعلمنا أنّه لولا الجهاد والصبر ما عُبد الله في الأرض، ولا انتشر الإسلام في الخافقين، ولما قمنا في هذا المكان نوحد الله ونسبحه وندعوا إليه .
- إنّ الإسراء والمعراج يعلمنا أنّ اليسر مع العسر، وأنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، ومن رحم الظلام يخرج النور :
(( فإنّ مع العسر يسرا. إنّ مع العسر يسرا))
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه..
(( إنَّ اللّهَ وملائِكتَه يُصلونَ على النَّبي يا أيَّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ))....