تقـرير شهـر شعبـان
خطبة جمعــة بعنوان
( تقـرير شهـر شعبـان )
أمّا بعد أيّها الأحباب الكرام
إنّ الله تعالى خلقنا وكلفنا بعملِ الصالحات، وأخبرنا أنها ستوزن بميزانِ الحقِ والعدل فقال سبحانه وتعالى : ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
واستشعار المرء وقوفه بين يديّ الله عزوجل؛ ليحاسبه على الكثيرِ والقليل، والصغير والكبير،
يجعله يبادر إلى فعلِ الخيرات استعداداً ليوم العرض الأكبر الذي تُعرض فيه اعمالُ العباد على الله جل ثناؤه .
ولأنّنا في شهرِ شعبان شهرٌ ترفع فيه الاعمالُ والتقاريرُ الى الله أقفُ وإياكم اليوم مع أربعة تقارير مهمة متعلقةٌ بكل إنسانٍ في هذا الكون ..
نعم ثَمَّةَ تقارير ثلاثة تُرفَع عن كل عبدٍ من عبادِ الله إلى ربه تبارك وتعالى كما دلَّت على ذلك نصوصُ الكتاب والسنة النبوية الصحيحة.
إنّها تقارير ربانية يُكتب فيها كلُ شئ عمله الانسان في حياته إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
تقارير إلهية يُدوّن فيها، ويُحصى فيها، ويُسجل فيها
ويُحفظ فيها الأقوال والأفعال والزمان والمكان ..
فماهي هذه التقارير ُ الأربعة ؟!
وماهي الأوقات التي تُرفع فيها هذه التقارير ؟!
ومتى يتوقف عملُ هذه التقارير ؟!
أمّـا أولُ هذه التـقاريـر الأربعة التي تُرفع عن كلِّ عبدٍ الى ربه سبحانه وتعالى فهي:
( التقاريرُ اليومية )
وهي التقاريرُ التى ترفعُ عن العبدِ يومياً، وفي كلِّ يوم ..!
ودليلُ رفع التقارير اليومية هو ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كما روى ذلك مسلم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسِ كلماتٍ فقال : ( إنّ الله عزوجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يَخفِض القسط ويَرْفَعه، يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النهار، وعملُ النهار قبل الليل ...).
قال المُنَاوي :
"معناه يُرفَعُ إليه عملُ النهار في أولِ الليل الذي بعده، وعملُ الليلِ في أولِ النهار الذي بعده؛ فإنّ الحَفَظة يصعدون بأعمالِ الليل بعد انقضائه في أولِ النّهار، ويصعدون بأعمالِ النّهار بعد انقضائه في أولِ الليل".
وهناك غيرهم يتعاقبون علينا بالليلِ والنّهار ليرفعوا تقاريرَ للملك الجبار سبحانه وتعالى عن أعمالنا صغيرها والكبير .. عظيمها وحقيرها ..
فكما في المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليلِ وملائكةٌ بالنهار، ومعنى يتعاقبون : أي تأتي طائفة بعد طائفة ..
"يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليلِ وملائكةٌ بالنهار،
ويجتمعون في صلاةِ الفجر وصلاةِ العصر ثم يَعرجُ الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم -وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي ؟!
فيقولون : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون".
وأمّا اجتماعهم في الفجرِ والعصر فهو من لطفِ الله تعالى بعبادهِ المؤمنين، وتكرمه لهم بأن جعل اجتماع الملائكة عندهم ومفارقتهم لهم في أوقاتِ عباداتهم واجتماعهم على طاعةِ ربهم فتكونَ شهادتهم لهم بما شاهدوه من الخير "..
ففي هذين الوقتين تُرفَع التقارير اليومية آخرَ كل يوم وليلة ..!
فعملُ النهار يُرفَع في آخره ..!
وعملُ الليل يُرفَع في آخره !... وهكذا..
وهذا الرفع يُطلَق عليه : الرفعُ الخاص؛ أي :
خاصٌ بعملِ الأيامِ والليالي.
ثانياً التقاريرُ الأسبوعية:
وهذه التقارير تُرفع كلَ اثنين وخميس؛ فكما روى مسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( تُعرَض أعمال النّاس في كلِّ جمعةٍ مرتين، يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفَرُ لكلِ عبد مؤمن، إلا عبدًا بينه وبين أخيه شَحْنَاء، فيقال : اتركوا - أو ارْكُوا - هذين حتى يَفِيئا ).
وفي الحديثِ ايضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تُفتح أبواب الجنّة يوم الاثنين ويوم الخميس. فيُغفرُ لكلِ عبدٍ مسلم لا يشرك بالله شيئا، إلاّ رجلٌ كانت بينه وبين أخيه شحناء. فيُقال : أنظِروا هذين حتى يصطلحا».أي أمهلا هذين حتى يتصالحا.
وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قلت :
يا رسول الله، إنّك تصوم حتى لا تكاد أن تفطر، وتُفطر حتى لا تكاد أن تصوم إلاّ يومين إن دخلا في صيامك وإلاّ صمتهما .
فقال صلى الله عليه وسلم :« أيُّ يومين؟»
قلت : يوم الاثنين ويوم الخميس.
قال :« ذانك يومان تُعرض فيهما الأعمال على ربِّ العالمين، وأُحبُ أن يعرض عملي وأنا صائم ».
- ولقد كان إبراهيم النخعي يبكي امرأته يوم الخميس ويقول : اليوم تُعرض أعمالنا على الله عزوجل ..
- وكان الضحاك يبكي آخر النهار ويقول :
لا أدري ما رُفع من عملي.
فهذا النوع من الرفع خاصٌ بعملِ العبد خلال الأسبوع.
ثالثاً التقاريرُ الختامية:
وهذا النوع من التقارير يكون عند انقضاءِ الأَجَل، وانتقال الروح إلى باريها، وحينئذٍ تطوى صحيفة عمل العبد، ويُختَم عليها، ثمّ ترفع إلى ملك الملوك تبارك وتعالى ..اسأل الله أن يحسن خاتمتنا وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياةِ الدنيا وفي الآخرة ...
رابعاً التقاريرُ السنوية:
وهي التقارير السنوية لأعمالك وترفع في شهرِ شعبان الذي غَفِلَ النّاسُ عن فضائله ومِنحه وجوائزه الربانية..
شعبان الذي شُرعَ فيه جميعُ أعمال البر من الصدقةِ وقراءةُ القرآن والذكر والصيام ..
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومُ أكثر أيامه، وعندما سُئل عن ذلك أخبر عليه الصلاة والسلام أنّه شهرٌ تُرفع فيه الأعمال؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " شعبان بين رجب وشهر رمضان، تغفُلُ النّاس عنه، تُرْفع فيه أعمالُ العباد، فأحبُّ أن لا يرفع عملي إلاّ وأنا صائم ".
فانظر وتأمل وفكر، كيف ستُرفع أعمالك؟!
وهل هي أعمالٌ تَرفعُ الدرجات؟!
أم أنّها أعمالٌ تستحي أن تعرضها على إنسانٍ مثلك، فكيف بربِّ الأرض والسماوات الذي خلقك ورزقك وأسبغ عليك نعمة ظاهرةً وباطنة !!
هل هذا التقرير يؤهلك للنجاحِ والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة؟!
أم أنّها أعمالٌ ظلمت فيها وقصّرت في العباداتِ وارتكبت المحرمات، وسفكت الدماء، وأخذت حقوق العباد دون وجه حق، وشهدت شهادة الزور، وعققت والديك، وقطعت رحمك...
وهذا النوع من الرفع يشمل رفع جميع أعمال السنة ويكونُ هذا الرفع في شهرِ ِ شعبان ..
أقول ماسمعتم واستغفروا الله لي ولكم من كل ذنب إنّه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية
أمّابعد أيّها الفضلاء
أربعة تقارير تُرفَع عن كل عبدٍ من عبادِ الله إلى ربه تبارك وتعالى وهي التقاريرُ اليومية، والتقاريرُ الأسبوعية، والتقاريرُ الختامية والتقاريرُ السنوية ..
وهذه التقارير ليستْ كتقاريرِ البشر، التى يشوبُ أكثرها الكذب، والتلفيق، وتزوير الحقائق، وغالباً ما تكون معرضةً للأخطاءِ، والسهو، والنسيان، وقد يُعاد النظر فيها مرات ومرات أخرى وتكون قابلة للحذفِ او الإضافة او التعديل.
أمّا التقارير الإلهية الربانية فهي تختلف عن تقاريرِ البشر في أمور عدة، منها :-
أولاً :-
أنّ كُتَّاب هذه التقارير مهرة في الكتابةِ والإحصاء، فيكتبون القليل والكثير، والصغير والكبير، ويكتبون القول والفعل، والزمان والمكان؛ قال تعالى :
﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
وقال : ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].
وقال : ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
وقال : ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7- 8].
ثانياً :-
أنّ كُتّابَ هذه التقارير أُمناء، فلا يحابون ولا يهادنون ولا يجاملون؛ وكلُ شيءٍ عندهم مسجل ومحسوب ويتم توثيقه في سجلٍ لا يُغيّر ولا يُبدل ولا يزور؛
ولا يُحرّف .. قال تعالى :
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) المجادلة:6]
وقال سبحانه ﴿ كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾الانفطار: 11-12..
ثالثاً :-
أنّ هذه التقارير تُكتب في سجلاتٍ كبيرة، ثم تُنشر يوم البعث والنشور .. قال سبحانه وتعالى :
﴿ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴾ [التكوير: 10]
وقال جل ثناؤه : ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13- 14].
وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي، وحسَّنه الألباني عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنّ الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوسِ الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاًّ، كلُ سجل مثل مدّ البصر ..
ثمّ يقول له : عبدي أتُنكِر من هذا شيئًا ؟؟
أظَلَمكَ كتبتِي الحافظون ؟؟
فيقول : لا يا رب.
فيقول له : أفَلَك عذرٌ ؟؟
فيقول : لا يا رب.
فيقول الله : بلى إنّ لك عندنا حسنة، وإنّه لا ظلم عليك اليوم قال : فيُخرج له بطاقة فيها : (أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله).
فيقول : احضر وزنَكَ..
فيقول العبد : يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟
فيقال له : فإنّك لا تُظلَم..
قال : فتوضع السجلات، وثَقُلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء ).
رابعاً :-
أنّ هذه التقارير يُبنَى عليها المستقبلُ الحقيقي للشخص فإن كانت تقاريرَ إيجابية، سعِدَ صاحبُها في الدنيا والآخرة وإن كانت تقارير سلبية، فلا يلومنَّ إلاّ نفسه !
ومصداقُ ذلك ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( يا أهلَ الجنّة، خلودٌ فلا موتَ، ويا أهل النّار، خلودٌ فلا موتَ ) .
خامساً :-
أنّ الذي يطلع على هذه التقارير ليس رئيس مؤسسة، ولا رئيس دولة، ولارئيس وزراء، ولا وزيرًا، ولا ملِكًا؛ ولا حاكماً ولا والياً ولا أميراً إنّما هو مَلِك الملوك جل في علاه القائل : ﴿ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 48].
وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( يُدنَى المؤمن من ربه ..
وقال هشام : يَدنُو المؤمن حتى يضع عليه كَنَفه، فيقرره بذنوبه، تَعرِف ذنب كذا ؟
يقول : أعرف، يقول : ربِّ أعرف مرتين ..
فيقول الله : سترتُها في الدنيا، وأغفرها لكَ اليوم،
ثمّ تُطوَى صحيفةُ حسناتِه ..
وأمّا الآخرون أو الكفار فينادى بهم على رؤوسِ الأشهاد : ﴿ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18] ).
اللهم بيّض وجوهنا يوم الوقوف بين يديك
ولا تُخزنا يوم العرض عليك واجعلنا من عبادك الصالحين ..
هذا وقد أمركم ربكم فقال قولًا كريمًا :
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].