القرآن والعلم: رحلة الإعجاز من الوحي إلى الاكتشاف
القرآن والعلم: رحلة الإعجاز من الوحي إلى الاكتشاف
المقدمة
منذ أربعة عشر قرنًا، نزل القرآن الكريم على قلب النبي محمد ﷺ ليكون هداية للناس ونورًا للوجود، كتابًا يُتلى ويتعبد به، وفي الوقت نفسه يثير في العقول دهشة العلماء والمفكرين عبر العصور. لم يكن القرآن كتاب علومٍ تجريبية، لكنه تضمن من الإشارات والمعارف ما جعل العلماء في كل عصر يقفون أمامه مبهورين بما يحمله من عمقٍ علمي وتناسق كوني لا يصدف أن يصدر عن بشرٍ في زمنٍ لم يكن يعرف المجهر ولا التلسكوب ولا أدق قوانين الكون.
لقد حمل القرآن رؤية شمولية للوجود، جمعت بين الروح والعقل، بين الإيمان والبحث، وجعلت من التأمل في الكون عبادة، ومن طلب العلم فريضة. وهكذا أصبح هذا الكتاب العظيم منطلقًا لنهضة فكرية وعلمية امتدت قرونًا، وألهمت العلماء المسلمين والاكتشافات التي قامت عليها الحضارة الإنسانية الحديثة.
أولاً: الرؤية القرآنية للعلم
حين يتأمل الباحث في آيات القرآن، يكتشف أن المنهج القرآني في المعرفة يسبق المنهج العلمي الحديث في جوهره؛ إذ يقوم على الملاحظة، والتفكر، والاستدلال، والتجربة. فالقرآن لم يكتفِ بدعوة الإنسان إلى الإيمان، بل حفّزه على النظر في آيات الله في الآفاق والأنفس:
“قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ” (يونس:101).
بهذا الأسلوب التوجيهي، وضع القرآن أساس المنهج العلمي التجريبي الذي يقوم على المشاهدة والملاحظة الدقيقة، واعتبار الكون كتابًا مفتوحًا يُقرأ بالعقل والبصيرة. وقد أدرك علماء المسلمين الأوائل هذه الرسالة، فأنشأوا مدارس الطب والكيمياء والفلك والرياضيات، تحت راية "طلب العلم" الذي اعتبروه جزءًا من العبادة.
ثانياً: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
يُعد الإعجاز العلمي أحد أبرز وجوه إعجاز القرآن، إذ تكشف نصوصه عن حقائق علمية لم تكن معروفة زمن نزوله، ولم تُكتشف إلا بعد قرون. وليس المقصود بالإعجاز العلمي أن القرآن كتاب فيزيائي أو بيولوجي، بل أنه أشار إلى سنن كونية ثابتة بطريقة لا تتعارض مع العلم الحديث، بل تتفق معه على نحو مذهل.
1. خلق الإنسان وتكوينه
يقول الله تعالى:
“وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً...” (المؤمنون:12–14).
لقد جاءت هذه المراحل بتسلسل دقيق يوافق ما أثبته علم الأجنة الحديث بعد اكتشاف المجاهر، من أن الجنين يمر بمراحل متعاقبة: النطفة، فالعلقة (مرحلة التعلق بجدار الرحم)، فالمضغة (مرحلة التشكل الأولي). وقد أكد العالم الكندي كيث مور، أستاذ علم الأجنة بجامعة تورنتو، في محاضراته وكتبه أن الوصف القرآني لتطور الجنين يطابق تمامًا ما توصل إليه العلم الحديث، رغم أن هذه المعلومات لم تكن معروفة قبل القرن العشرين.
2. الكون والتمدد
يشير القرآن إلى ظاهرة تمدد الكون في قوله تعالى:
“وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” (الذاريات:47).
لم تُعرف حقيقة تمدد الكون إلا في القرن العشرين بعد اكتشافات إدوين هابل التي أظهرت أن المجرات تتباعد عن بعضها بسرعة متزايدة. هذا التوسع الكوني الذي أثبته العلم الفيزيائي هو ذاته ما نطق به القرآن قبل أكثر من 1400 عام في لفظة “لَمُوسِعُونَ”، التي تفيد الاستمرار والديمومة.
3. الجبال ودورها الجيولوجي
جاء في القرآن الكريم:
“وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا” (النبأ:7).
الجبال في ظاهرها ارتفاع شاهق، لكنها في باطن الأرض تمتد جذورها إلى أعماق القشرة الأرضية كالأوتاد التي تثبّت الخيمة. وقد كشف علم الجيولوجيا الحديث أن للجبال جذورًا غائرة تمتد أضعاف ارتفاعها فوق سطح الأرض، وأنها تسهم في استقرار القشرة الأرضية. هذا التشبيه القرآني بالأوتاد يُعد وصفًا بالغ الدقة لوظيفة الجبال الجيولوجية.
4. البحار والفواصل المائية
يقول تعالى:
“مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ” (الرحمن:19–20).
وقد أثبتت الأبحاث الحديثة وجود مناطق فاصلة بين البحار المالحة تختلف في الكثافة والحرارة والملوحة، تمنع اختلاط مياهها التام رغم التقاء السطوح. هذا ما أثبته علماء المحيطات في القرن العشرين، مؤكّدين دقّة التعبير القرآني عن هذا “البرزخ” المائي.
ثالثاً: الإعجاز اللغوي والعلمي في البيان القرآني
إضافة إلى المعاني العلمية، يحمل القرآن إعجازًا لغويًا فريدًا يعكس دقة التعبير العلمي في كلماته. فاختيار المفردة القرآنية ليس اعتباطيًا، بل محكم المعنى والدلالة. فعلى سبيل المثال:
استخدام كلمة “يسبحون” في قوله تعالى: “وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” (الأنبياء:33) يصف بدقة حركة الأجرام السماوية بطريقة انسيابية تشبه السباحة، وهو ما يتفق مع مفهوم الدوران المداري.
واستخدام كلمة “نطفة أمشاج” (الإنسان:2) يعكس التقاء مكونات متعددة في خلق الإنسان، وهي إشارة دقيقة إلى اختلاط المادة الوراثية من الأب والأم (DNA).
هذه الدقة اللفظية تجعل النص القرآني معجزًا علميًا ولغويًا في آنٍ واحد.
رابعاً: حفظ القرآن ونقله عبر العصور
من الجوانب العلمية الأخرى في دراسة القرآن مسألة حفظ النص. فقد أثبت التاريخ والبحث المقارن للمخطوطات أن القرآن الكريم لم يتعرض للتحريف أو التبديل منذ نزوله.
المخطوطات القرآنية التي وُجدت في صنعاء والمدينة المنورة وتركيا ومكتبات أوروبا تعود إلى القرن الأول الهجري وتطابق نص المصحف المتداول اليوم حرفًا بحرف.
وفي عام 2015، أعلن باحثون في جامعة أكسفورد أن مخطوطة قرآنية محفوظة في مكتبة برمنغهام ترجع إلى زمن قريب من عهد النبي ﷺ نفسه، ما يؤكد تواتر النص القرآني وثباته المذهل عبر أكثر من أربعة عشر قرنًا.
هذا الثبات الفريد يجعل القرآن النص الوحيد في التاريخ الإنساني الذي حُفظ شفويًا وكتابيًا في آنٍ واحد، على ألسنة الملايين وصدورهم، دون أن يطرأ عليه تغيير يذكر، وهي حقيقة تشهد بها الدراسات الفيلولوجية الحديثة.
خامساً: أثر القرآن في بناء الحضارة العلمية الإسلامية
لم يكن الإعجاز العلمي في القرآن غاية نظرية فحسب، بل كان دافعًا عمليًا نحو النهضة العلمية الإسلامية. فقد استلهم العلماء المسلمون روح القرآن في البحث والتجريب.
يقول المؤرخ البريطاني توماس أرنولد: “إن الحضارة الإسلامية نشأت من رحم القرآن، فهو الذي أطلق طاقات المسلمين في الفكر والعلم”.
ومن رحم الآيات التي تحث على النظر والتفكر، برزت أسماء لامعة:
ابن الهيثم في البصريات، الذي وضع أساس المنهج التجريبي.
الرازي في الكيمياء والطب.
الخوارزمي في الرياضيات والحساب.
الزهراوي في الجراحة.
كل هؤلاء استمدوا من الآيات الكريمة التي تمجّد العلم وتكرّم العلماء، دافعًا معرفيًا هائلًا جعل من الإسلام دينًا يحفّز الاكتشاف لا يقيده.
سادساً: التوافق لا التعارض بين القرآن والعلم
تُظهر المقارنة المنصفة بين النص القرآني والاكتشافات العلمية الحديثة أن القرآن لا يتعارض مع العلم الصحيح، بل يفتح أمامه آفاقًا أوسع.
وقد صرح عدد من العلماء الغربيين ممن درسوا الظواهر الكونية في ضوء القرآن بأن النص القرآني لا يمكن أن يكون نتاج عصرٍ بدائي. من هؤلاء العالم الفرنسي موريس بوكاي صاحب كتاب “القرآن والتوراة والإنجيل والعلم” الذي خلص فيه إلى أن النص القرآني هو الوحيد الذي لا يتناقض مع الحقائق العلمية الحديثة، بخلاف النصوص الأخرى التي اعتراها التحريف أو الغموض العلمي.
إن العلاقة بين القرآن والعلم ليست علاقة خصومة، بل تكامل وتوجيه؛ فالعلم يبحث في الكيفية، والقرآن يجيب عن الغاية والهدف والمعنى.
سابعاً: القرآن والوعي البيئي والكوني
من الجوانب العلمية المعاصرة التي تتجلّى في القرآن الكريم رؤيته الإيكولوجية للعلاقة بين الإنسان والبيئة. فقد دعا إلى التوازن في استخدام الموارد، ونهى عن الإفساد في الأرض:
“وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا” (الأعراف:56).
كما قدّم تصورًا شموليًا عن وحدة الكون وتناسق مكوناته:
“اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ” (الطلاق:12).
هذه الرؤية تحث الإنسان على احترام الطبيعة باعتبارها آية من آيات الله، وعلى التعامل معها بعلم ومسؤولية، وهو ما يتفق تمامًا مع الاتجاهات الحديثة في العلوم البيئية والتنمية المستدامة.
ثامناً: القرآن واستشراف المستقبل العلمي
إن القرآن لا يقدم حقائق علمية فحسب، بل يوجّه الفكر الإنساني نحو منهجية استشرافية تدعو إلى الاستمرار في البحث. فهو لا يغلق باب المعرفة، بل يفتحه على مصراعيه، ويُذكّر بأن كل علم إنما هو باب من أبواب معرفة الخالق.
“وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى” (مريم:76).
ولهذا فإن الباحث المعاصر حين يقرأ القرآن بعين العلم يجد فيه أفقًا متجددًا؛ فكلما تطورت أدوات العلم، ازداد النص القرآني عمقًا في دلالاته. فالآيات التي كانت تُفهم في الماضي مجازًا أو غيبًا أصبحت اليوم تُقرأ في ضوء حقائق فيزيائية وبيولوجية دقيقة، مما يؤكد أن الإعجاز القرآني زمني ممتد، يتجدد مع كل عصر.
تاسعاً: القرآن والعقل الإنساني
لم يغفل القرآن الجانب العقلي في بناء المعرفة، بل جعل من التفكير والتساؤل سبيلًا للإيمان. أكثر من 750 آية تحث على النظر والتفكر والتدبر. هذه الدعوة المستمرة للعقل تمثل أساس المنهج العلمي الحديث الذي يعتمد على الشك المنهجي، والتجربة، والاستنتاج.
وقد أثبتت الدراسات النفسية المعاصرة أن التأمل والتفكر العميق يرفع مستوى الإدراك المعرفي لدى الإنسان، وهو ما دعا إليه القرآن قبل أن يكتشفه العلم الحديث.
عاشراً: التوازن بين العلم والإيمان
من أخطر ما يواجه البشرية المعاصرة هو الفصام بين العلم والقيم. والقرآن يقدم حلًا لهذه الأزمة عبر مبدأ التوازن بين العلم والإيمان؛ فهو لا يجعل العلم غاية بذاته، بل وسيلة لفهم الوجود وخدمة الإنسان.
إن القرآن يربط بين الحقائق العلمية والأخلاقية، فيجعل من العلم عبادةً حين يقترن بالنية الصالحة، ويجعله فسادًا حين يُستخدم للإضرار بالإنسان أو البيئة. ومن هنا تبرز عالمية الرسالة القرآنية التي توجّه الحضارة نحو المعرفة المسؤولة.
الخاتمة
إن رحلة الإعجاز من الوحي إلى الاكتشاف لم تتوقف منذ نزل القرآن إلى اليوم. كلما تقدم العلم خطوة، أضاء القرآن أمامه آفاقًا جديدة من الفهم والإلهام. فالقرآن ليس كتابًا فيزياء أو كيمياء، بل كتاب هدايةٍ ورؤيةٍ علمية للكون والحياة.
وفي زمنٍ تتسارع فيه الاكتشافات وتتعقد فيه المفاهيم، يبقى القرآن ثابتًا ببيانه، مرنًا بمعانيه، متجددًا في إعجازه، شاهدًا على أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون إلا من عند الله.
المراجع والمصادر
موريس بوكاي، القرآن والتوراة والإنجيل والعلم الحديث، دار المعارف، القاهرة.
كيث مور، The Developing Human: Clinically Oriented Embryology، جامعة تورنتو.
توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن.
زغلول النجار، الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
بحوث جامعة أكسفورد حول مخطوطة برمنغهام القرآنية (2015).
دراسات المركز الوطني للبحث العلمي CNRS حول الفواصل المائية بين البحار.
مقالات علمية منشورة في مجلات Nature و Science حول تمدد الكون والجيولوجيا الحديثة.
