التفوق العلمي وأثره في تقدم الأمم
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها السادة : ما أحوجنا إلي أن يكون حديثنا عن التفوق العلمي وخاصة وأن التفوق في مختلف المجالات مطلب شرعي ووطني وإنساني، ولا مجال لبناء دولة قوية بغير العلم والتفوق. وخاصة نرى العالم اليوم يتقدم بعلمائه في جميع المجالات المختلفة, وخاصة وأن العالم اليوم وقف حائرًا أسيرًا بسبب فيروس كورونا، وبيَّن ضعفنا وعجزنا خاصة في مجال الطب والعلاج والدواء ,وخاصة والله جل وعلا جعل العلم النافع طريقًا مُوصلاً لمرضاته، وسبيلاً يُوصل إلى كل خير وبر وهدى. لذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا(( رواه ابن ماجه……. ولله در القائل
فَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً *** تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ
ومَنْ فاتَهُ التَّعْليمُ حالَ شَبابِهِ *** فَكَبِّرْ عليْهِ أرْبَعًا لوَفاتِهِ.
أيها السادة : التفوق العلمي سبب لتقدم الأمم والشعوب فلا سعادة ولا فلاح ولا تقدم ولا رقي إلا بالعلم ,فبالعلم تُبنى الأمجاد، وتُشَيَّدُ الحضارات، وتَسُود الشعوب, وتقل الأمراض والأوبئة , فالعلم هوَ الركيزةُ العظمى لأيِّ نهضةٍ في قديمِ التاريخِ وحاضرِه، وحيثُ كانت النهضةُ كانَ التعليم، وحيثُ كانَ التعليمُ كانت النهضة؛ فكم من أمم نهضت بسبب تعليمها ,وكم من أمم تقدمت بسبب تعليمها, وكم من أمم تفوقت بسبب تعليمها ,وكم من أمم تأخرت بسبب جهلها , وكم من أمم ساد فيها الظلام والأمراض والأوبئة بسبب جهلها، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومنزلة العلم رفيعة عالية، لا تساويها منزلة من المنازل، ولا تقاربها مكانة من المقامات، وما من إنسان إلا وهو محتاج إلى العلم وكيف لا ؟ الله تعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، ولا نعرف شيئًا. وقال سبحانه وتعالي : ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 78)، ومن توهم أنه بلغ الغاية في المعارف والعلوم، ووصل إلى النهاية فقد أخطأ وضل ضلالا مبينًا ,فكل ما عند الناس من العلوم والمعارف قليل على كثرته وتنوعه كما قال الله سبحانه تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾( الإسراء: 85)
لذا حثّنا الله جل وعلا على العلم ، وبين منزلةَ العلمِ والعلماءِ ، والثوابَ العظيم َعند الله تعالى أهل العلم ، فقال سبحانه: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) المجادلة: 11. ولم يأمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالاستزادة من شيء إلا من العلم، فقال له -سبحانه وتعالى:((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (((طه:114). وما ذاك إلا لما للعلم من أثر في حياة البشر، فأهل العلم هم الأحياء، وسائر الناس أموات.
والعلم ميراث الأنبياء والرسل ، ففي صحيح البخاري تعليقا والسنن الأربعة قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظَ وَافِرٍ)
والعلم طريق إلى الجنة ياسادة كما صح في صحيح مسلم من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:” مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ” وفي رواية أبي داود: ((وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ ))،وفي حديث أبي أمامة رضى الله عنه قال: ذُكِرَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم رجُلانِ؛ أحدهما عابدٌ، والآخَرُ عالِمٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “فضلُ العالمِ على العابدِ كفضلي على أدناكم“ ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: “إنَّ اللَّهَ وملائِكتَهُ وأَهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملةَ في جُحرِها وحتَّى الحوتَ ليصلُّونَ على معلِّمِ النَّاسِ الخيرَ” رواه الترمذي. وقال معاذ بن جبل – رضي الله عنه – : وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام: “تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وبذله قربة وتعليمه من لا يعلمه صدقة” وقال أبو مسلم الْخَوْلاَنِىِّ – رحمه الله –(( العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا بدت للناس اهتدوا بها، وإذا خفيت عليه تحيروا))
بل العلم يبقى، والمال يفنى، كما في صحيح مسلم ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ((
وسئل أحد السلف: أجمع المال أفضل أم جمع العلم؟ فقال: بل جمع العلم؛ لأن المال ينقص بالإنفاق والعلم يزداد، ولأن من جمع العلم يزداد أحباؤه، ومن جمع المال يزداد أعداؤه)) العلم خير من المال فالعلم يحرسك وأنت تحرس المال .
بل استشهد الله بالعلماء دون غيرهم على أجل مشهود وهو توحيده وقرن شهادتهم بشهادة الملائكة الأبرار فقال تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18) فانظر كيف بدأ سبحانه بنفسه، وثنَّى بالملائكة، وثلَّث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفًا وفضلًا وجلاًء ونبلًا، وقال عز وجل: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ الزمر: 9
علم العليم وعقل العاقل اختلفـا *** من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال أنا أحرزت غايتـه *** والعقل قال أنا الرحمن بي عرفا
فأفصح العلم إفصاحًا وقال له *** بأيّنا الرحمن في قرآنه اتصفـا
فبان للعقل أن العلـم سيده *** وقبل العقل رأس العلم و انصرفا
أيها السادة : الجهل والغش والمعصية وعدم تقدير العلماء من أخطر أسباب ضياع العلم
فالجهل داء اجتماعي خطير ,ووباء خلقي كبير ,ما فشا في أمة إلا كان نذيرًا لهلاكها ,وما دب في أسرة إلا كان سببًا لفنائها ,فهو مصدر كل عداء وينبوع كل شر وتعاسة والجهل آفة من آفات الإنسان، مدخل كبير للشيطان ،مدمر للقلب والأركان ،يفرق بين الأحبة والإخوان، يحرم صاحبه الأمن والأمان ،ويدخله النيران ،ويبعده عن الجنان ،فالبعد عنه خير في كل زمانا ومكان.لذا استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهل ، كما في مسند أحمد وغيره ((عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رضي الله عنها ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ « بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّى إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَزِلَّ أَوْ أَضِلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَىَّ )) ولَقد وردت فِي القرآن الكريم آيات عديدة للتحذير مِن مَخاطِر الجَهل، قال تعالى:((وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا))( الفرقان:63 ) ، بل خاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )( الأعراف :199) بل الجهل من علامات الساعة ففي الصحيحين عن أَبي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قال النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ ، وَالْهَرْجُ: الْقَتْلُ))والجهل من أخطر أسباب الضلال والانحراف عن الحق والهدى والصواب ، ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ـ رضي الله عنهماـ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: ” إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ” وصدق من قال: (( خير المواهب: العقل، وشر المصائب: الجهل))
والغش يا سادة من أخطر الأسباب المؤدية إلى الجهل وضياع العلم ويساوي بين المجتهد والكسول وبين من تعب وتعلم وبين من لعب وجهل لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( مَن غَشَّنا فليسَ مِنا)) رواه مسلم. والغش في الامتحانات هلاك ودمار , وخزي وعار ,وخراب وضياع , والغش دليل على ضعف الإيمان وعدم مراقبة الله جل وعلا.
والمعصية تؤدي إلى نسيان العلم وحرمانه يا رب سلم يقول عبد الله بن مسعودـ رضي الله عنه ـ فى تفسير قوله تعالى: )وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ): إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم يعلمه بالذنب يعمله. انتبه.. فإن كثيرًا من طلاب العلم يشتكى سوء حفظه وضعف ذاكراته ولو فتشت أيها الحبيب الكريم لعلمت أن السبب الرئيسي هو المعاصي والذنوب.
لذا يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: إن للمعصية سوادًا في الوجه، وظلمة في القبر وَوَهَنًا في البدن، وضيقًا في الرزق، وبُغضًا في قلوب الخلق، وإن للطاعة : نورًا في الوجه، ونورًا في القلب، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق.
فهذا هو الشافعي الإمام عندما أراد أن يتعلم على يدي الإمام مالك بن أنس انطلق الشافعي ليبحث عن كتاب الإمام مالك «الموطأ» فاستعار الموطأ من رجل وعكف الشافعي مع الموطأ فحفظه عن ظهر قلب في تسع ليال. وأخذه في صدره، وانطلق إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام، وجلس الشافعي الإمام بين يدي أستاذه وشيخه مالك بن أنس وافتتح الشافعي الموطأ من حفظه ، فكلما نظر مالك إلى الشافعي يقرأ الموطأ من صدره أعجب بذكائه، وبحسن قراءته وقوة حافظته وذاكرته وببلاغته. يقول الشافعي: فكلما نظرت إلى مالك تهيبت أن أواصل القراءة، فنظر إلىّ مالك وقد أعجب بحسن قراءتي وحفظي وقال لي :زد يا فتى .. زد يا فتى .. زد يا فتى .. حتى أنهيت الموطأ كله في أيام قليلة. فلما رأى مالك هذا الذكاء وهذا الحفظ من الشافعي قال: يا شافعي إني أرى أن الله قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية. لذا لما ذهب يومًا ليتعلم ونظر في طريقه إلى امرأة نسي الشافعي ما حفظه فأنشد قائلا
شكوت إلى وكيع سوء حفظي * * فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور * * ونور الله لا يهدى لعاصي
فالعلم نور يستضيء به الناس ويهتدون به، والجهل ظلمة يجر الناس إلى الهلاك. العلم يدعو إلى الحكمة والتأني، والجهل يدعو إلى العجلة والاستعجال.
قال أحمد شوقي:
العلم يبني بيوتا لا عماد لهـا , والجهل يهدم بيوت العز والشرف
أهل العلم أحياء وأهل الجهل أموات ..ولله در علي بن أبي طالب رضى الله عنه وأرضاه
مَا الفَخْرُ إلا لأَهلِ العِلمِ إنَّهُمُ ***على الهُدَى لِمَن اسْتَهْدَى أَدِلاَّءُ
وقَدْرُ كُلِّ امرِئٍ مَا كان يُحْسِنُهُ****والجَاهِلُون لأَهلِ العِلمِ أَعدَاءُ
فَفُزْ بِعِلْمٍ تِعِش حَيًّا بِه أَبَدا***النَّاسُ مَوتى وأَهلُ العِلمِ أَحْيَاءُ