
بين صوت الناس وصوت الحق
بين صوت الناس وصوت الحق
في أحد الأحياء القديمة، كانت تعيش عائلة آل ناصر، عائلة معروفة بين الناس بالالتزام الشديد بالعادات والتقاليد. لم يكن التزامهم نابعًا من دينٍ ولا من إيمان، بل كان خوفًا من "كلام الناس". فكل قرار يتخذونه، وكل خطوة يقدمون عليها، كان يحكمها سؤال واحد:
"ماذا سيقول الناس؟"
كان الأب، الحاج ناصر، رجلاً قوي الشخصية، لكنه أسير هذا النظام. إذا أراد ابنه أن يختار مهنة تناسبه، قال له:
"يا بني، لا تفكر كثيرًا، اعمل مثل أبناء عمومتك حتى لا يقول الناس إنك خرجت عن العائلة."
وإذا رغبت ابنته في إكمال دراستها، رد بقسوة:
"الفتاة مكانها البيت، يكفيك شهادة متوسطة، فالناس سيقولون إننا نترك بناتنا يخرجن كثيرًا."
حتى الأم، أمينة، كانت تكرر هذه العبارات:
"اسكتوا، لا تعارضوا أباكم، نحن لا نريد أن يُقال عنا إننا عائلة مختلفة."
كبر الأبناء في جوّ خانق، يرددون ما يُقال لهم دون قناعة. كانوا يعرفون أن بعض القرارات ظلمٌ بيّن، لكنهم صمتوا خوفًا من المجتمع.
الصدام مع الحق
مرت السنوات، وجاء يوم فارق، حينما وقعت حادثة كشفت زيف هذا النظام.
فقد كان جارهم، رجل فقير يُدعى أبو ياسر، قد تعرّض لظلم كبير من بعض التجار الذين استولوا على أرضه. لجأ أبو ياسر إلى أهل الحي طالبًا النصرة، والوقوف معه أمام القضاء.
لكن الحاج ناصر رفض وقال:
"لا دخل لنا، هؤلاء التجار أصحاب نفوذ، لو وقفنا ضدهُم سيقول الناس إننا نعارض الكبار ونخرج عن جماعتنا."
وقف الابن الأكبر، سامي، محتجًا:
"أبي، هذا ظلم! الرجل حقه ضاع، والشرع يأمرنا أن نكون مع المظلوم."
لكن الأب صرخ:
"اسكت! لا تجلب لنا العار. نحن مع الناس، ولسنا مع قلة ضعيفة."
انكسر قلب سامي، ورأى بعينيه كيف يُباع الحق في سبيل رضا الناس.
نور من القرآن
في تلك الأيام، كان سامي يقرأ القرآن في الليل بحثًا عن الطمأنينة. وقع بصره على قوله تعالى:
﴿وَإِن تُطِيعُوا أَكْثَرَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ﴾ [الأنعام: 116]
فشعر أن الآية تخاطبه مباشرة. لم يكن الحق مع الكثرة دائمًا، بل مع من يتمسّك بالعدل والشرع.
ثم قرأ قوله ﷺ:
"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً."
ففهم أن الوقوف مع المظلوم واجب، لا يخضع لمجرد كلام الناس.
موقف التغيير
قرر سامي أن يقف بجانب جاره المظلوم. ذهب مع أبي ياسر إلى المحكمة، وأدلى بشهادته بالحق رغم تهديد التجار. يومها، تسلطت ألسنة الناس على عائلة آل ناصر:
"انظروا! ابن الحاج ناصر خالف أباه! أهان عائلته! وقف ضد الكبار!"
غضب الحاج ناصر غضبًا شديدًا، حتى كاد يطرده من البيت. لكن سامي قال كلمته:
"أبي، الناس لن يغنوا عنك من الله شيئًا. غدًا، عندما نقف بين يديه، لن ينفعنا إلا ما قدمناه من حق وعدل."
بداية الصحوة
مرت أيام ثقيلة، لكن المحكمة حكمت لصالح أبو ياسر بفضل شهادة سامي. وعندما عاد الرجل المظلوم إلى أرضه، رفع يديه للسماء ودعا لسامي:
"جزاك الله خيرًا يا بني، لولاك لضاع حقي."
سمع الحاج ناصر هذا الدعاء، فشعر بشيء يهز قلبه. لأول مرة أدرك أن ما فعله ابنه هو الحق، وأن خوفه من الناس جعله أداة للباطل.
بدأ يراجع نفسه، وشيئًا فشيئًا تغيرت نظرته. جلس ذات ليلة مع أسرته وقال:
"أبنائي، سامحوني. عشت عمري أعبد كلام الناس كأنه دين، وغفلت عن أمر الله. من اليوم، لن نسير إلا خلف الحق، ولو خالفنا العالم كله."
ثمار التغيير
تحولت العائلة كلها بعد ذلك الموقف:
سمح الأب لابنته أن تكمل دراستها، قائلًا: "العلم عبادة، ولا يهم كلام الناس."
صار الأبناء أكثر ثقة في الدفاع عن المظلومين.
حتى الأم، التي كانت تردد عبارات المجتمع، صارت تقول: "الناس لا يرضون أبدًا، لكن الله إذا رضي أغنانا عن الجميع."
كبرت سمعة العائلة لا بالخوف من كلام الناس، بل بالوقوف إلى جانب الحق. وصارت مثالًا يُحتذى في الحي.
العبرة
إن العيش تحت "نظام الناس" عبودية مقنّعة، تحرم الإنسان من حرية الحق. فالناس لا يملكون نفعًا ولا ضرًا، والحق عند الله ثابت لا يتغير.
قال رسول الله ﷺ:
"من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس."
الخاتمة
هكذا علّمت قصة آل ناصر أن الحق لا يُقاس بالكثرة ولا بأصوات المجتمع، بل بميزان الشرع. فمن سار وراء الناس ضاع، ومن سار وراء الله ورسوله فاز، ولو كان وحيدًا.
