“ما الذي يدفع إنسانًا لترك زخارف الدنيا، والسعي في طريق طويل شاق، لا يطلب فيه مالًا ولا جاهًا… بل يطلب فقط وجه الله؟
التصوف هو رحلة القلب إلى الله. هو ذلك العطش الداخلي الذي يجعل الإنسان يبحث عن معنى أعمق من المظاهر، معنى يعيش به في حضرة الله دائمًا.
منذ القرون الأولى ظهر رجال ونساء عرفوا بـ أولياء الله. لم يكونوا مميزين باللباس أو المظاهر، بل بصفاء قلوبهم وقوة محبتهم لله.
التصوف ليس مذهبًا جديدًا ولا طريقًا غريبًا، بل هو ببساطة الوجه الروحي للإسلام. هو ذلك الجانب الذي يعتني بالباطن، بالقلب والروح، كما يعتني الفقه بالجوارح والأعمال.
• التصوف يعني السير إلى الله بالحب، وتنقية النفس من أمراضها، حتى تعيش مع الله بصدق.
• هو تربية روحية تقوم على القرآن والسنة، وعلى الاقتداء بأحوال الصالحين والأولياء.
• لذلك نجد أن أولياء الله الذين تحدّث عنهم القرآن هم: “الذين آمنوا وكانوا يتقون”. أي كل من حقّق الإيمان والتقوى، فهو وليّ لله.
• التصوف إذن منهج تربية للنفس، هدفه الارتقاء من مجرد الطقوس الظاهرة إلى حياة يعيشها القلب في حضرة الله.
وهنا ندرك أن التصوف ليس هروبًا من الحياة، بل هو حضور كامل مع الله في كل لحظة، حتى في أبسط تفاصيل الحياة اليومية.
وان أحد أعظم أسرار التصوف هو أن الطريق كله يقوم على المحبة.
• محبة الله التي تُذيب القلب وتجعله ينسى نفسه.
• محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو النموذج الأكمل للإنسان الكامل.
• محبة الخلق، لأنهم مظاهر أسماء الله في الأرض
كانوا يقولون: “الصوفي ليس من لبس الصوف، بل من صفا قلبه لله.”
أي أن التصوف ليس شكلًا ولا مظهرًا، بل هو باطن وروح.
لكن يبقى السؤال: ما هو سر هذه الرحلة؟
الجواب كلمة واحدة… المحبة.
فمن دون الحب، يصبح التصوف جافًا، طقوسًا بلا روح. ومن دون الحب، لا يذوق القلب حلاوة القرب من الله.”
المتصوفة جعلوا المحبة الإلهية أساس كل سلوك. كانوا يقولون: لا يعبدون الله خوفًا من ناره، ولا طمعًا في جنته، بل حبًا له لأنه أهل للمحبة.
الحب عندهم ليس عاطفة عابرة، بل هو قوة تغيّر الإنسان، تصفي القلب من الأهواء، وتجعله يعكس النور الإلهي.
يمكننا أن نضرب مثالًا:
• كما أن العاشق لا يمل من ذكر محبوبه، كذلك الذاكر لا يمل من ذكر الله.
• كما أن العاشق يجد سعادته في القرب، كذلك المتصوف يجد فرحه الأكبر في لحظة خلوة يذوق فيها أنسه بالله.
“إذن، التصوف الحقيقي يبدأ بالحب وينتهي بالحب. تقول السيدة رابعة العدوية
“اللهم إني ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، ولكن عبدتك حبًا لك.
فالحب مقام الهي وان الله وصف به نفسه وتسمى بالودود
وقد وردت المحبة في القرءان والسنة في حق الله وفي حق المخلوقين
فالقرآن الكريم مليء بذكر المحبة:
• إن الله يحب التوابين
• إن الله يحب المحسنين
• إن الله يحب المتوكلين
وفي السنة نجد ذلك المعنى العميق في الحديث القدسي المشهور:
“كنت كنزًا لم أعرف، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، وتعرفت إليهم، فعرفوني.”
فهذا النص يلخّص أن سبب وجودنا قائم على الحب الإلهي. نحن لم نُخلق لأنفسنا، بل خُلقنا لله ومن أجله.
⸻
📖و قول الشيخ الاكبر محيي الدين بن عربي:
(وعن الحب صدرنا … وعلى الحب جبلنا)
بهذا التعبير البديع يلخّص ابن عربي سر الوجود: نحن خرجنا من رحم المحبة الإلهية، وتكوّن كياننا على أساسها. فالحب هو البذرة الأولى، وهو الغاية التي نصبو إليها