لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

0 المراجعات

خطبــة جمعــة بعنـــوان 
( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )
أمّـا بعـد 
ومع كلمةٍ جديدةٍ ضمن سلسلةِ الأذكار المباركة 
اقف معكم اليوم .. 
وممّا لا شك فيه أنّنا نعيش في هذه الايام، وفي هذا الزمان في غمومٍ وهموم ..
وهذه حقيقة لا ينكرها أحد ..
توالت علينا الغمومُ والهموم، وتتابعت علينا الشدائدُ والكربات، وتراكمت الضوائق والملمّات .!
كلُ الأحداث من حولنا تُشيرُ إلى واقعِ الهمّ والغمّ .
ولأننا بحاجةٍ ماسّةٍ في هذه الأيام لِما يَدفعُ عنّا الغموم والهموم، ويَرفعُ عنّا الشدائد والكربات والملمّات، فإن كلمة اليوم ضمن سلسلةِ الأذكار تُزيلُ الهمّ والغمّ، وترفعُ الكربَ والضيق عن صاحبها ..!
وردت هذه الكلمة عبر قصةٍ قرآنيةٍ حكاها لنا القرآنُ الكريم عن نبيٍُّ كريم فقال سبحانه وتعالى :
( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ) [الأنبياء: 87- 88].
إنّها كلمــةُ :
( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )
مـن أعظمِ أنواع المناجاة وأروعها ..! 
إنّها مناجاةُ نبيّ الله يونس عليه السلام ..
وما أحوجنا إلى هذه المناجاة بصدق ..
وما أشدّ حاجتنا الى هذه الكلمة في هذه الايام العصيبة التي نمرُ بها، وفي هذه الايام المليئة بالأوجاع والآلام، والمحاطة بالعسرِ وضيقِ الحال .!
فهي العلاج وفيها الإبهاج دون أن نخوض هنا وهناك ..
تتلخصُ قصةُ نبيِّ الله يونس عليه السلام المشهورة حين أُلقي به عليه السلام إلى البحر ..!
فالتقمه الحوت ..! وغشيتْهُ أمواجُ البحرِ الهائلةِ الهائجة ..! وأَسدلَ الليلُ البهيمُ ستاره المظلمُ عليه ..!
فداهمته الرَهبةُ والخوفُ من كلِّ مكان ..!
وانقطعت أمامَهُ أسبابُ الرجاء ..!
وانسدت أبوابُ الأمل ..!
وإذا بمناجاته الرقيقة، وتضرّعه الخالص الذكي ينطلقُ من لسانِ قلبه الصادق لتُحلّق في ملكوتِ الكون وتصلَ الـى رافعِ السماء :
" لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين "
فيصبحُ له في تلك الحالة واسطةُ نجاة ..! 
ووسيلةُ خلاص ..!
وسرُ هذه المناجاةِ العظيمة هو أنّ الأسباب المادية قد هوت كليّـاً في ذلك الوضع المرعب، في ذلك الوضع المخيف، في ذلك الوضع المَهيب ..
تعطّلت تماماً، وسقطت كلياً..!
ولا يستطيع أن يُنقذَه من تلك الحالةِ إلاّ الذي تنفُذُ قدرتُهُ في الحوت ..! وتُهيمنُ على البحر ..!
وتستولي على الليلِ وجوِ السماء ..!
في وقتٍ قد إتفق على الإنقضاضِ عليه والخلاصِ منه كُلاً من : 
الليلِ الحائك ..! والبحرُ الهائج ..! والحوت الهائل ..!
فلا يُنجيه سببٌ، ولا يُخلصُهُ أحد، ولا يوصله إلى ساحلِ السلامةِ بأمان .. إلاّ من ؟! 
إلاّ من بيده مقاليدُ الليل، وزمامُ البحرِ والحوتِ معـاً. 
ولهــذا لمّا رأى عليه السلام بعينِ اليقين وهو في تلك الظلمات أنّه لا ملجأ له إلاّ الملاذ إلى كنفِ مسببِ الأسباب ..! 
انكشف له سرُ الأُحَدية من خلالِ نورِ التوحيد الساطع حتى سَخّرت له تلك المناجاة الخالصة الليلُ والبحرُ والحوتُ معاً. 
بل تحول له بنورِ التوحيد الخالص :
بطنُ الحوتِ إلى ما يُشبهُ بطنَ الأمِ رعايةً وعنايةً وحنان..!
وأصبحَ ذلك البحرُ الهائج بالأمواجِ المتلاطمة محلُ سكنٍ وسكينةٍ وأمانٍ واستقرار ..!
أمّا القمرُ فقد كشفَ عن وجهه المنير فانقشعتِ الغيوم وانجلتِ الظلمةُ وانزاحتِ الغُمّة ..
وهكذا غدت تلك المخلوقات التي كانت ترعبه من كلِ صوبٍ وتُضيّق عليه من كلِّ مكان ..!
غدت تلك المخلوقات التي كانت قد اتفقت من قبل على الإنقضاضِ عليه، والقضاءِ عليه..!
غدتِ الآن تُسفرُ له عن وجهِ الصداقة، وتتقربُ إليه بالودِّ والحنان ..
حتى خرجَ إلى شاطئِ السلامةِ وشاهد لطفَ ربه الرحيم تحتَ شجرةِ اليقطين : 
( وأنْبتنا عليه شَجَرةً مِنْ يَقْطِين )..
إنّه مشهدٌ عظيمٌ أن تتحولَ وسائلُ التخويفِ والرعبِ والفزعِ إلى وسائلِ أنسٍ وآمانٍ وهدوءٍ وتطمين ..!
فالحوتُ الملتقم : هو الذي صارَ بطنُهُ المكانَ الآمن ..!
والبحرُ الهائج المظلم : هو الذي أصبحَ ميدانَ المناجـاةِ ومسـرحَ الأنس ..!
وذلك لأن التوحيد إذا استقر زال كلُ خطر ..
التوحيد الخالص إذا وقرَ اندفع كلُ ضرر ..
الإيمانُ الراسخ إذا تواجد رحلَ كلُ بلاء ..
بشاشةُ الإيمان إذا هيمنت على حياةِ العبد وأصبحت لباسة ذهب عنه كلُ كربٍ وراحَ عنه كل خوفٍ، وقلقٍ، وضيقٍ، ورعب ..
( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )
إنّ لهذه الكلمة فضائل وثمار ولعل من أهمها وأبرزها هي إستجابةُ الدعاء ..! 
فهل تريد أن يستجيب الله لك دعاءك ؟!
اتحدثُ إليك بصدق، وأكلمك عن جِد ؟
هل تُحبُ أن تدعو الله فيستجيب لك ؟
هل ترجو صلاحاً لأولادك وذريّتك ؟
هل تريد صحةً في جسدك وعافيةً في بدنك ؟
هل تريد رزقاً وفيراً ؟
هل تريد أن يدفع الله عنك كيد اعدائك ؟
هل تريد أن يجيرك الله من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة ؟
استفتح وأبدأ أيّ دعاءٍ، ترجوا إجابته بــــ :
( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )
مع الأخذ بشروطِ الدعاء، ثمّ ادعوا بما تريد وسيستجيب الله لك دعاءك .
هذا الضمان من البشير النذير، وممّن لاينطق عن الهوى رسولنا صلى الله عليه وسلم القائل :
" دعوةُ ذي النون التي دعا بها وهو في بطنِ الحوت :
( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )
فإنّه لم يدعُ بها رجلٌ مسلم في شيءٍ قط إلاّ إستجابَ الله له " ..
جعلني الله وإياكم ممّن ذُكّر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سراً وجهرا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين، اقـول ما تسمعون واستغفروا الله لي ولكم انه هو الغفور الرحيم..

الخطبة الثانية :
أمّـا بعـد معاشر الصالحين : 
( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )
ما اروع هذا الهتاف !
وما أجمل هذه الكلمات !
لننظر بنورِ هذه المناجاةِ إلى أنفسنا ..! 
فنحنُ في وضعٍ مخيفٍ ومرعب وقلق ومضطرب..!
فليلُنا الذي يُخيّمُ على أمتنا إذا نظرنا إليه بنظرِ الغفلة يبدو مظلماً مخيفاً، بل وربما أحلكُ ظلاماً وعتامةً من الليلِ الذي كان فيه سيدنا يونس عليه السلام . 
أمّا بحرنا : 
فهو هذا العالم الذي نعيشُ فيه، فكلُ موجةٍ من أمواجه تحملُ ألواناً من الفتن،  وأنواعاً من المكر؛ والخداع (قتلٌ وتخريبٌ، وتزويرٌ وخطفٌ، وكفرٌ وعمالةٌ، وخيانةٌ وضعفٌ، وغير ذلك ممّا نعلمُ وممّا لا نعلم، وممّا نبصرُ وممّا لا نبصر ).
إذاً فهو بحرٌ مرعبٌ ورهيب.
أمّا حُوتُنا : 
فهو ما نحمله من أنفسٍ أمارةً بالسوءِ ضعيفةٌ أمامَ الشهوات، مُحبةً للسلطةِ والتسلط، ميّالةً إلى الأموال، عاشقةً للمناصبِ، منخدعةً ببريقِ اللذاتِ منبطحةً أمامَ الملذات.
وهذا الحوت الذي هو أنفسنا :
يريدُ أن يلتقمَ حياتنا الأبدية ويمحقَها، فهو أشدُّ ضراوةً من الحوتِ الذي ابتلع سيدنا يونس عليه السلام .
وكم من النّاسِ مثلاً من إبتلعهم الإعلام !! 
وكم هناك منهم ممّن إبتلعهم الظلمُ والتسلط !!
وكم هناك ممّن ابتلعهم الربا فلم يستطيعوا منها خلاصًا ولا فِكاكًا !! 
وكم ممّن أثارتهم الشهوات، وابتلعتهم الكراسي والحانات !!
وكم من الشباب ممّن ابتلعتهم وسائلُ التواصل الإجتماعي، فأصبحت لهم وسائلُ هدمٍ وتدميرٍ للأخلاقِ والقيم والمبادئ.!
وكم هناك منهم ممّن ابتلعتهم الموضات ونوادي القنوات والشاشات، حتى اصبحوا عشاقاً للأندية ولاعبيها والمراهنة على فوز ناديٍ على نادي اخر .!
وكم منهم ممّن ابتلعهم تقليد الغرب بقصاتهم وحركاتهم وملابسهم .!
وكم منهم ممّن ابتلعتهم أدواتُ اللهو والطرب والمعاكسات والمغازلات وملاحقةِ المُردان..!
وآواه آواه على زمنٍ قيل فيه عن شبابه :
شبابٌ لم تُحَطــمُهُ الليالــى 
ولم يُسْلم الى الخصمِ العرينا
ولم تشهَدُهُمُ الأقداحُ يومـــاً 
وقد ملــؤوا نواديهم مــــجونا
ومـــا عـرفوا الأغانيَ مائعاتٍ 
ولكــن العُــلا صيغت لُحــونا
ولم يتشـــدقوا بقشورِ علْمٍ 
ولـم يتقلّــبوا في الملحدينا 
ولم يتبجحــوا في كل أمــــرٍ خطــيرٍ
كي يقــال مثقفونا
كذلك أخــرج الإسلامُ قومي 
شباباً مخلصـــاً حـــراً أمـينا
ذلكم الجيل السابق من شبابه يقتدي بشبابِ الأمة وقادتها العظماء، وإن اقتدوا :
فبعمر فاروق الأمة، والحييُّ عثمان، وعلي بطل المواجهة، والزبير، وحذيفة، والمثنى، وابن رواحة، وجعفر، وربيعة، وابن مسعود، وأسامة، وأبي عبيدة، وعمار، وخباب، وصهيب، وزيد.. وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
شبابٌ يهتف من أعماقِ قلبه وسويداء وجدانه :
منّا أبوبكر وسعد، وصلاح الدين وأورنك..
منّا خالد، وطارق، وقتيبة، وابن القاسم والملك الظاهر..
منّا البخاري، والطبري، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، وابن خلدون.. 
منّا كل من كان الصورة الحيّة للمُثلِ البشرية العليا..
وكل قائد كان سيفاً من سيوف الله مسلولاً..
وكل عالم كان من البشرِ كالعقلِ من الجسد..
منّا مائةُ ألفٍ عظيم وعظيم..
قوتنا بإيماننا، وعزنا بديننا..
وثقتنا بربنا وخالقنا ..
وضعيفنا المحق قويٌ فينا، وقوينا عونٌ لضعيفنا..
ولهذا حُوتُنا يحاولُ إفناءنا، وحرماننا من حياةِ النّعيم المقيم المستمر في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مقتدر ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) [النازعات: 40- 41].
فما دام أنّ هذه هي حقيقةٌ وُضعنا فما علينا إذاً 
إلاّ الإقتداءَ بسيدنا يونس عليه السلام، والسير على هدْيِّ مناجاته، مُقبلين كلياً على ربنا الذي هو مسببُ الأسباب، متوجهين إليه بقلوبنا وجوارحنا ملتجئين إليه سبحانه، قائلين :
( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )
نقولها ونحن نُدركُ بعينِ اليقين : 
أنّه لا يقدر على أن يدفعَ عنّا مخاوف المستقبل وأوهامه، ولا يُزيلُ أهوال الدنيا ومصائبها، ولا يُبعدُ عنّا أضرار النفس الأمارة بالسوءِ ودسائسها، إلاّ من كان المستقبلُ تحتَ أمره، والدنيا تحت حُكمِهِ، وأنفسنا تحت إدارته.
وتُرى من غيرُ الله خالقِ السماواتِ والأرض، يعرف خلجات قلوبنا ؟! 
ومن غيره يعلمُ خفايا صدورنا ؟! 
ومن غيره قادرٌ على إنارةِ المستقبل لنا ؟! 
ومن غيره يستطيع أن ينقذنا وأبناءنا من بين ألوف أمواجِ الدنيا بالفتنِ والأحداث ؟!
حاشا وكلا أن يكون لنا مُنجي غيره، ومُخلّص سواه 
فالنعطّر هذه الدنيا بمناجاة :
" لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ "
فهي طوقُ النّجاةِ لمن استشرف الغرق :
الغرق في الشهوات، الغرق في الملذات، الغرق في بحر المعاصي والسيئات والمنكرات ..
(فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:144].
لنعيش مع معاني هذه الكلمة والمناجاة، رافعين أكفّ الابتهالِ إلى ذي العزةِ والجلال، متوسلين مستعطفين نظرَ رحمته الربانية إلينا ..
مقتدين بسرِ هذة المناجاة الرائعة التي سخّرتِ الحوت والبحر والليل واليقطين وغير ذلك لسيدنا يونس عليه السلام ..
وحتى يعمّ مستقبلنا نورُ الإيمان، وضياءُ القرآن، وينقلب رعبُ ليلنا ودهشته إلى أمنِ الأنس وطمأنينةُ البهجة، ولتنتهي مهمةَ حياتنا ونختتم وظيفتها بالوصولِ إلى شاطئِ الأمن والأمان دخولاً في ضمان :
(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)
اللهم أصلح أحوالنا، واجعل بطاعتك اشتغالنا، وإلى الخيرات مآلنا...
(( إنَّ اللّهَ وملائِكتَه يُصلونَ على النَّبي يا أيَّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ))....

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

23

متابعين

5

متابعهم

0

مقالات مشابة